وثالثها سعي الدولة الأموية إلى توحيد القراءة وحروفها على وفاق المصحف العثماني، وخصوصا في عهد إمارة الحجاج بن يوسف الثقفي كما قدمنا، وإن كان هذا لا يعني أنها قد استطاعت أن تحول دون استمرار القراءة بالحروف الشاذة عن هذا المصحف حتى في الشام نفسها أو العراق، لاسيما في حمص والكوفة حيث مركز قراءة ابن مسعود، رغم سطوة الحجاج، فقد بقيت معروفة بين القراء وجمهور الرواة، كما قال سليمان الأعمش (ت ١٤٨): "أدركت أهل الكوفة وما قراءة زيد فيهم الا كقراءة عبد الله فيكم ما يقرأ بها الا الرجل والرجلان"(١).
ومعنى هذا أن أصداء تلك الروايات المنقولة عن الصحابة في شواذ الحروف قد ظلت معروفة في قراءة الآخذين عنهم من التابعين لا يرون حرجا في القراءة بها عند الاقتضاء، وهذا عبد الرحمن ابن الأسود المدني ـ وهو معدود في التابعين يروي عن أبي بن كعب وعائشة وغيرهما، وقد غزا افريقية مع ابن أبي سرح(٢)ـ يروي ابن أبي داوود من قراءته بهذه الحروف الشواذ، أن أبان بن عمران النخعي قال: "قلت لعبد الرحمن بن الأسود: انك تقرأ (صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين)"(٣). يعني أنه يخالف قراءة الجمهور.
(٢) - معالم الإيمان للدباغ ١/١٦١.
(٣) - المصاحف لابن أبي داود ٦٠، وهي قراءة أبي وابن مسعود وعمر بن الخطاب كما في البحر المحيط ١/٢٨.
كثرة الروايات وخطورتها في رأي الفقيه أبي بكر بن العربي:
ولقد تنبه إلى خطورة هذا الوضع على القراءة نفسها وعلى مستقبل علوم القرآن الأخرى بعض علماء العصر، ورأى أن صرف الاهتمام الكامل في هذا الوجه كان يتم على حساب الجوهر واللباب، بحيث اشتغل سواد القراء بحروف القرآن عن معرفة حدوده والتفقه في أحكامه، وتمادى ذلك بهم حتى كادوا يجعلونه الوكد من حياتهم، وهو ما عبر عنه فقيه العصر يومئذ القاضي أبو بكر بن العربي المعافري الاشبيلي في قوله:
"ولما ظهرت الأموية على المغرب، وأرادت الانفراد عن العباسية وجدت المغرب على مذهب الاوزاعي فأقامت في قولها رسم السنة، وأخذت بمذهب أهل المدينة في فقههم وقراءتهم، وكانت أقرب من إليهم قراءة ورش فحملت روايته، وألزم الناس بالمغرب حرف نافع ومذهب مالك فجروا عليه وصاروا لا يتعدونه، وحمل حرف قالون إلى العراق فهو فيه أشهر من ورش... ودخلت بعد ذلك الكتب، وتوطدت الدولة فأذن في سائر العلوم، وترامت الحال إلى أن كثرت الروايات في هذه القراءات، وعظم الاختلاف حتى انتهى في السبع إلى ١٥٠٠ رواية، وفي شاذ السبع إلى نحو ٥٠٠ رواية، وأكب الخلق على الحروف ليضبطوها فأهملوها، وليحصروها فأرسلوها إلى غير غاية، وأراد بعضهم أن يردها إلى الأصل، فقرأ بكل لغة وقال: لغة بني فلان، وهذه لغة بني فلان".
قال القاضي أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ"(١) :"وبعد أن ضبط الله الحروف والسور فلا تبالوا بهذه التكليفات، فإنها زيادات في التشغيب، وخالية من الأجر، بل ربما دخلت في الوزر" قال: