فإذا كان مثل هذا يجري في أكثر السور دورانا على الالسنة في الصلاة، فما الظن بغيره مما فيه مجال لاتساع الخلاف مما يقرأ به من الشواذ. فمن المحتمل جدا أن أمثال هذه الحروف التي اعتبرت فيما بعد شاذة كانت مما يقرأ به الآخذون عن الفاتحين، ولا يجدون أدنى غضاضة في ذلك أو حرج أو إحراج. وكيف وقد تلقاها القارئ موثقة عن شيخه لا يخالجه أدنى شك في صحتها وجواز القراءة والإقراء بها، وانما تعارف الناس على التمييز بين المتواترة وغيرها من الحروف بعد أن دونت القراءات واستفاض نقلها في عهود لاحقة.
ولقد تحدثنا في الفصل الماضي عن طائفة من بعثات الإقراء الرسمية التي كانت تنتدب مع الجند أثناء الفتح أو بعده، ووقفنا على جهودهم في نشر القرآن وتعليمه، ولا شك أن البعثات الأولى منها كانت تتولى الدعوة والإرشاد أكثر مما تتفرغ لتلقين القرآن، ولهذا فلا يمكن الحديث عن أثرها في القراءة والسعي إلى توحيدها على نمط معين، ولهذا فيمكن أن تكون القراءة ظلت مطلقة على مصاحف الصحابة الذين شهدوا زمن الفتح كابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعبد الله بن عمرو، أو على مصاحف الفاتحين كعقبة بن عامر أو عقبة بن نافع وغيرهم.
"ولكن لما صارت هذه القراءة صناعة، رفرفوا عليها، وناضلوا عنها، وأفنوا أعمارهم من غير حاجة إليهم فيها، فيموت أحدهم وقد أقام القرآن كما يقيم القدح لفظا، وكسر معانيه كسر الإناء فلم يلتئم عليه منها معنى"(١).
ذلك رأي القاضي أبي بكر بن العربي قاضي اشبيلية (ت ٥٤٣) ووصفه للحال التي آلت إليها الاختلافات في الروايات والطرق، ووصفه أيضا للشغف الزائد المفرط الذي تحولت معه القراءة إلى صناعة بعد أن كانت رواية ونقلا محضا، وهذا التحليل منه لهذا الموقف لا يتهم فيه بالعداء للقراء لحساب الفقهاء، لأنه كان هو أيضا من أهل الفن فإنه "تأدب ببلده وقرأ القراءات"(٢)، وألف فيها كتابا سماه "المقتبس من القراءات"(٣) بل كان له أكثر من ذلك اختيار خاص في القراءات حلل عناصره في كتاب "العواصم" فكان مما قال:
(٢) - الغنية لعياض ٦٦.
(٣) - ذكره له في كشف الظنون ٢/١٧٩٢.