ونستفيد من هذا أن مهمة إسماعيل كانت موزعة بين الولاية والتعليم، ولعل هذا ما جعل تأثيره في افريقية أوسع من تأثير غيره من أفراد البعثة المذكورين فبله أو بعده، وقد "أسلم على يده خلق كثير"(١)، وعلى الرغم من اسناد الولاية إلى غيره بعد وفاة عمر(٢)فإنه ظل مقيما بالقيروان نحوا من ثلاثين سنة، الأمر الذي جعله أكثر انصرافا إلى العبادة والتعليم والإقراء، فإذا علمنا انه كان قبل الولاية مشتغلا بتعليم القرآن بالشام، ومؤدبا لأولاد الخليفة عبد الملك بن مروان(٣)، فإننا لا نستبعد أن يظل التعليم والتأديب شغله الشاغل بعد اعتزال الولاية.
ومن شواهد اهتمام ابن أبي المهاجر بالقراءة ما رواه عبد الله بن المبارك المروزي عن إسماعيل بن رافع عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه يوحى إليه، ومن قرأ القرآن فرأى أن أحدا من خلق الله أعطي أفضل مما أعطي فقد حقر ما عظم الله، وعظم ما حقر الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن يجهل فيمن يجهل ولا أن يحد فيمن يحد، ولكن يعفو ويصفح"(٤).

(١) - المصدر نفسه ١/١١٦.
(٢) - ولي بعده يزيد بن أبي مسلم، "فسار في البربر بالظلم والغشم، فقتلوه في مصلاه" البيان المغرب ١/٤٨.
(٣) - تاريخ الإسلام للذهبي ٥/٢٢٦- وتهذيب التهذيب لابن حجر ١/٣١٧.
(٤) - كتاب الزهد لابن المبارك ٢٧٥-٢٧٦.

إلا أن التقدم بهذا المنهج وانطلاقا من هذا الكتاب بقي في حاجة إلى جهود أقوى وأفسح تخرج به من هذا المحيط المحدود، إلى الفضاء الواسع والمجال الرحب في كافة أطراف الأرض لتعميم مذاهبه، و"ترسيم" اختياراته بعد إعادة إبرازها وتجليتها في قالب رائق جديد من النظم التعليمي على النحو الذي فعله قبله أبو الحسن الحصري بالنسبة لأصول مدرسته، فكان الإمام القاسم بن فيره الشاطبي هو الذي تحقق على يده هذا الإنجاز الكبير.
ترجمة الإمام الشاطبي :
هو القاسم بن فيره(١) بن خلف بن أحمد أبو القاسم(٢) ويقال أيضا أبو محمد الرعيني الشاطبي الأندلسي الضرير، ولد ـ رحمه الله ـ أعمى مكفوف البصر أواخر سنة ٥٣٨(٣) بمدينة شاطبة وهي مدينة كبيرة في شرق الأندلس من ثغورها لا تبعد كثيرا عن مدينة بلنسية قاعدة هذه الجهة.
وكانت مدينة شاطبة يومئذ من أهم مراكز القراءات في شرق الأندلس، وقد بسط عليها الموحدون سيادتهم في شباب الشاطبي بعد موت أميرها محمد بن سعد بن مردنيش ـ صاحب بلاد شرق الأندلس في سنة ٥٦٧(٤).
(١) - اللفظ بكسر الفاء بعدها ياء آخر الحروف ساكنة ثم راء مشددة مضمومة بعدها هاء، ومعناها بلغة عجم الأندلس الحديد. ـ غاية النهاية ٢/٢٠ ترجمة ٢٦٠٠.
(٢) - وقيل اسمه كنيته وقيل غير ذلك كما وقف عليه ابن خلكان وذكره في الوفيات ٤/٧٣، وذكر العبدري في رحلته ٢٧ـ٢٨ انه كان يكنى بالأندلس بأبي محمد قال: وبه كناه جميع شيوخه الأندلسيين الذين قرأ عليهم فيما كتبوا له.
(٣) - الذيل والتكملة السفر ٥ القسم ٢/٥٤٨ـ٥٥٧.
(٤) - روض القرطاس ٢١١.


الصفحة التالية