والظاهر من استفتاء ابن وهب ـ وهو من قراء المصريين ـ أنه كان في سؤاله يصف أمرا واقعا في بلاده، وهو ما يفهم من قول مالك نفسه عن أهل الأسكندرية فيما ساقه الإمام أبو إسحاق الشاطبي(١)عن مالك في سياق إنكاره لهذا النمط من القراءة قال: "لا يجتمع القوم يقرأون في سورة واحدة كما يفعل أهل الأسكندرية، هذا مكروه لا يعجبني"(٢).
- موقف العلماء من القراءة الجماعية في افريقية:
ومهما يكن فإن مناطق إفريقية لا بد أن تكون قد تعرفت على أسلوب "الدراسة" باعتباره نمطا تعليميا جديدا، وربما أسهمت فيها بنصيب قليل أو كثير عن طريق من دخلها من قراء الشام ممن أخذوا بهذا النمط، أو من قراء بلاد مصر بفعل الاحتكاك وقرب الجوار، أو بسبب هجرة من هاجر منهم إليها.
ولعل أهل إفريقية قد توسعوا في الأخذ بذلك تأثرا بأهل الشام والاسكندرية قبل أن يسود فيهم مذهب مالك، وأن يكثر أتباعه في القيروان والمنطقة، وأما بعد ذلك فقد ناقشوا المسألة وحاولوا في زمن سحنون (ت ٢٤٠ هـ) أن يبثوا فيها على مذهب مالك بالمنع منها والأخذ على يد من سعى في ترويجها، وفي هذا السياق يقول سحنون فيما حكاه عنه ابنه في الرسالة التي دونها عنه في آداب المعلمين:
"ولقد سئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمع فيها للقراءة، فقال: بدعة، وأرى للوالي أن ينهاهم عن ذلك ويحسن تأديبهم"(٣).
لكن يبدو أن في قول سحنون وتعبيره بلفظ "هذه المجالس" ما يشعر بأنها أمست في هذه الجهة أيضا أمرا واقعا شائعا، وان كان أهل العلم ما يزالون يتوقفون في إباحته والإذن فيه.

(١) - هو إبراهيم بن موسى الغرناطي أبو إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات (ت ٧٩٠).
(٢) - المعيار المعرب ١١/١٦٩.
(٣) - رسالة آداب المعلمين لابن سحنون ١٠٥.

حدثنا بها الإمام أبو محمد مكي بن أبي طالب المقرئ عن أبي عدي عبد العزيز بن علي".
وقال أبو الحسن: قرأت بها على الشيخ أبي محمد عبد الله بن سهل المقرئ، وأخذ علي التحقيق، وأخبرني أنه قرأ بها على أبي القاسم عبد الجبار بن أحمد الطرسوسي بمصر، وتلقاها أبو القاسم عن أبي عدي المذكور، وتلقاها أبو عدي عن أبي بكر عبد الله بن سيف، وتلقاها أبو بكر عن أبي يعقوب يوسف بن عمرو الأزرق، وتلقاها أبو يعقوب عن ورش، وقرأها ورش على نافع "ثم ساق رواية قالون ثم قراءة ابن كثير من روايتيها ثم باقي القراءات السبع وقال: "فليرو أبو محمد قاسم المذكور ذلك كله عني وجميع ما صح عنده من روايتي، وليقل في ذلك كله كيف شاء من "حدثنا" وأخبرنا" و"أنبأنا"... ثم ذكر تاريخ الإجازة في شهر ربيع الآخر عام ٥٥٥هـ والحمد لله حق حمده، وصلى الله على محمد نبيه وعبده وسلم تسليما".
٢- أحمد بن محمد بن علي بن محمد بن أبي العاص النفزي أبو جعفر ويعرف بابن اللايه ولد أبي عبد الله السابق
ذكره ابن الأبار وقال: "أخذ القراءات عن أبيه أبي عبد الله بشاطبة، وعن أبي عبد الله بن سعيد بدانية، وخلف أباه بعد وفاته في الإقراء، وأخذ عنه جماعة، منهم ابن فيره الضرير المقرئ نزيل مصر وغيره، وكان متقدما في صناعته، معروفا بالضبط والتجويد، وكان أبوه أيضا كذلك"(١).
وترجمه بنحو ذلك ابن عبد الملك المراكشي وقال: "أخذ عنه القراءات أبو محمد قاسم بن فيره الضرير وغيره، وكان مقرئا متقدما في المعرفة بالتجويد والإتقان للأداء وجودة الضبط على القراء.."
٣- علي بن محمد بن علي بن هذيل أبو الحسن البلنسي صاحب أبي داود سليمان بن نجاح وربيبه وعميد مدرسة أبي عمرو الداني وراويتها في زمنه (٤٧١ـ٥٦٤).
(١) - التكملة ١/٧٥ ترجمة ١٩٨.


الصفحة التالية
Icon