ولقد زاد في الأمر ما ظهر في أثناء النصف الثاني من المائة الرابعة من احداث ما عرف فيما بعد بـ"الحزب الراتب"(١)، وقد ذكروا أن الشيخ المقرئ أبا محمد محرز بن خلف المؤدب (ت ٤١٣) هو "أول من سن قراءة القرآن بعد صلاة الصبح بافريقية"(٢).
ولم يذكروا لنا شيئا عن الكيفية التي كان يتم بها القيام بهذه الوظيفة التي "سنها" أهي الطريقة الجماعية في الأداء أي "الدراسة"، أم هي تلاوة قارئ واحد والناس يستمعون بعد الفراغ من صلاة الصبح؟ الظاهر أن المراد قراءة الجماعة من القراء دفعة واحدة، ولذلك ظل الأمر محل استشكال، وبقيت الأسئلة حوله تتردد في الميدان الفقهي، ولكن الجواب عنها كما نجده عند الإمام القابسي قد بدأ يأخذ اتجاها جديدا، فقد سئل أبو الحسن علي بن خلف القابسي (ت ٤٠٣) "عن المجتمعين بعد صلاة الصبح يقرأون الحزب من القرآن متفقين فيه، هل يجوز أم لا؟ فأجاب: ان كان لما يجدون في ذلك من القوة والنشاط في الحفظ والدراسة فلا بأس"(٣).
ولا شك أن هذا فقه جديد للقضية المعروضة أملاه الواقع العملي أكثر مما أملاه النظر الفقهي والمذهبي وأقره الشيخ القابسي ـ وهو أحد أساطين المالكية في زمنه ـ ناظرا إلى ما لمس فيه من مصلحة راجحة في الحفز على الاستذكار والاستظهار، وهذا توسط منه في الفتيا بين مذهب المنع ومذهب الترخيص.
(٢) - الفوائد الجميلة للشوشاوي.
(٣) - المعيار ١١/١٦٩.
تقدم التعريف به بما فيه الكفاية في فصل خاص، وكان ـ كما قال فيه ابن عبد الملك ـ صدر المقرئين وإمام المجودين، عمر فانتهت إليه رياسة الإقراء بشرق الأندلس في عصره، متقنا ضابطا مجودا حسن الأخذ على القراء"(١).
وقد تقدم أن الشاطبي رحل إليه إلى بلنسية فعرض عليه "التيسير" من حفظه، وقرأ عليه القراءات وسمع منه الحديث(٢)، وقد أسند عنه القراءة بالتحقيق في رواية ورش بإسناده المتصل بها قراءة إلى نافع بسنده إلى النبي ـ ﷺ ـ(٣).
وأجازه في مروياته عنه وكتب له بذلك نص إجازة ذكرها له صاحب فتح الوصيد نقتصر على المقصود منها أيضا باعتبارها نموذجا ثانيا بعد إجازة النفزي له، وهذا ملخصها:
ملخص إجازة أبي الحسن بن هذيل للشاطبي
مقدمة الإجازة: "الحمد لله بارئ الأنام بحكمته، وفاطر السموات والأرض بقدرته، الأول بلا عديل، الآخر بلا مثيل، والواحد بلا نظير، والقاهر بلا ظهير، ذي العظمة والملكوت، والعزة والجبروت...
يقول علي بن محمد بن علي بن هذيل:
"ان المقرئ أبا محمد قاسم بن فيرة بن أبي القاسم الرعيني ـ أيده الله بطاعته، وأمده بتوفيقه ومعونته ـ قرأ علي القرآن من فاتحته إلى خاتمته ختمة واحدة بمذاهب الأئمة السبعة رحمهم الله..
(٢) - وطريقه عنه في الصحيح من الطرق المشهورة، وقد أسند منها صحيح الإمام كل من أبي عبد الله بن رشيد في "ملء العيبة" ٥/١٨١ـ١٨٢ وأبي عبد الله بن غازي في فهرسته ٥٠ـ٥١.
(٣) - يمكن الرجوع إلى إسناده بها في النشر لابن الجزري ١/٢٠٦.