ولقد عني بالأخذ في هذا الطراز من الجمع على مشاهير الرواة من أصحابه، فقرأ عليه به جمهورهم ممن استكملوا عيه القراءة، ثم زاد على ذلك فألف فيه كتابه الآتي، وهو كتاب "التجريد الكبير" الذي رواه عنه أصحابه وقرأوا عليه بمضمنه، ولا يخفى ما لهذا النوع من القراءة والإقراء باختيارات الأئمة ومذاهبهم الفنية من تنبيه إلى أهمية دراسة مسائل الخلاف بينهم ومعرفة مستنداتهم فيها وتفقه في معانيها ومبانيها وتوجيهاتها من جهة العربية، مما يحقق التكامل في ثقافة القارئ، ويوثق الأواصر بين علوم القراءة والعربية ويوسع آفاق الطلاب بالدرس والموازنة للمذاهب ويساعد على الحذق والتوجيه عند الاقتضاء، إما لاختيار ما يراه القارئ أعدل في الأداء، أو أرجح مستندا وأقوى وجها، مما سيساعد طائفة من المتأخرين الذين اهتموا بمجالات الترجيح والتشهير أو بالتصدير وما عليه العمل وبغير ذلك مما سنقف على نماذج منه عند دراستنا لأرجوزة ابن بري بعون الله.
ولقد كانت لأبي الحسن مذاهب واختيارات في الأداء في رواية ورش وغيرها سنقف على بعضها فيما نقل عنه أو وصل إلينا من مؤلفاته، كما كان من آخر من درس لأصحابه مختلف المتون المتعلقة باختلاف مدراس الأصول وفي طليعتها "الإقناع" لابن الباذش، و"القصيدة الحصرية" في قراءة نافع "والأرجوزة المنبهة" "لأبي عمرو الداني، و"الخاقانية" "لأبي مزاحم الخاقاني، وغيرها من المصنفات، مما يدل على اتساع أفقه في هذا العلم وعلو كعبه في الرواية، وانفساح منهجه ليشمل عامة المذاهب والاختيارات والنظر فيها والأخذ منها انسجاما مع ما ذكرنا له من انتماء فني إلى "المدرسة التوفيقية"، فكان في هذه الجهة من المغرب رأس هذه المدرسة وممثلها في مقابل الحركة النشيطة التي كانت تعرف نشاطا ملحوظا في هذا الاتجاه في عهده سواء في سبتة أم في غرناطة والمرية ومالقة وغيرها من الحواضر الباقية تحت الحكم الإسلامي من بلاد الأندلس في زمنه.


الصفحة التالية
Icon