يعتبر أبو الحسن بن سليمان القرطبي من آخر الثمار الزكية الناضجة التي جادت بها البلاد الأندلسية على قاعدة المغرب لهذا العهد مدينة فاس، كما يعتبر من الجهة التاريخية والعلمية برزخا بين العهد الذي كانت الحواضر المغربية فيه ما تزال تولي وجهها في طلب القراءة والحذق فيها نحو الجهات الأندلسية الباقية لتنهل من مدارسها وتروي عن أعلامها، ثم تعود محملة الحواصل بما يتأتى لها من رصيد ثقافي وعلمي، ثم تقوم بتأديته في المنطقة بتمام الأمانة والضبط دون تدخل في غالب الأمر في دراسة ذلك وتمحيصه والنظر في توجيه وجوهه فضلا عن عقد الموازنة بينها والاختيار من بينها أو إعادة سبكها وصياغتها على أنماط مناسبة لمدارك أهل العصر، وبين العهد الجديد الذي ارتفع فيه مستوى الحذق عند القارئ المغربي فأخذ يسعى إلى الاستقلال بالرأي العلمي والمذهب الفني ويلتفت إلى تراث الأئمة بعد أن يستكمل غرضه منه بالرواية والحفظ، فيوسعه تدبرا وتحليلا، ثم يأخذ في الدراسة المقارنة له واختيار ما يراه أقوى في الرواية وأوجه في الأداء أو أشهر وأكثره فكان ظهور أبي الحسن بن سليمان في الميدان بمدرسته بعد مدرسة ابن القصاب التي أنارت الطريق، تتويجا عظيم الشأن لجهود المدرسة المغربية في الثلث الأول من المائة الثامنة، مما استحق معه هذا اللقب "شيخ الجماعة"، وهو لقب علمي يظهر من خلال الاستقراء أنه أطلق عليه قبل غيره، كما دل الاستقراء على أنه كان لقبا مخصوصا بالمشايخ المعتبرين الذي امتازوا بالتعمير في خدمة الفن، كما امتازوا بوفرة الإنتاج وكثرة الأصحاب.