الأمر بالتقوى واقترانه بصفة الخلق
وقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ﴾ التقوى: أن تجعل بينك وبين غضب الله تعالى عليك وقاية، أو تجعل بينك وبين عذاب الله تعالى وقاية، فأصل التقوى مأخوذة من التغطية أو التستر، قال الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتَّقتنا باليد أي: غطت وجهها بيديها.
قوله تعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾، قال كثير من أهل العلم: عبر بلفظ الخلق أو بصفة الخلق هنا دون غيرها من الصفات؛ لأن الناس المخاطبين بالآية كانوا يقرون بصفة الخلق، فمن ثم خاطبهم بالصفة التي يقرون بها، كما قال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: ٨٧]، فلما خاطبهم الله تعالى بقوله: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ خاطبهم بصفة يقرون بها، ويدينون بها لله سبحانه وتعالى مسلمهم وكافرهم، ويقرون بأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة﴾ النفس الواحدة هي آدم صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ هي حواء عليها السلام، ولم يرد لحواء ذكر في الكتاب العزيز باسمها، وأما سنة النبي ﷺ فقد ورد فيها ذكر حواء، ففي صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى أن النبي ﷺ قال: (لولا حواء لم تخن أنثى زوجها).
وقوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ يفيد أن حواء خلقت من آدم وهو الصحيح لا شك، وقد جاء عن رسول الله ﷺ ما يوضح ذلك، ففي الحديث أن النبي ﷺ قال: (إن المرأة خلقت من ضلع) الحديث، فهي خلقت من أحد أضلاع آدم على ما فهم من حديثه عليه الصلاة والسلام، وعلى ما ذكره الشراح، ولذلك تجد المرأة تميل إلى الرجل، والرجل يميل إلى المرأة.
وفي قوله تعالى: ((زَوْجَهَا)) دليل على إطلاق لفظ الزوج على المرأة، ولفظ الزوجة وإن كان جائزاً، لكن الأفصح استعمال (زوج) بغير تاء، كما قال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ﴾ [الأعراف: ١٨٩]، وأما لفظ (الزوجة) فمنه قول عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله إني أعلم أنها زوجة نبيكم ﷺ في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتتبعوه أم تتبعوها).
لكن الأفصح أن يقال: (زوج) بغير تاء.
قوله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ بث، أي: فرق ونشر، و (منهما) أي: من آدم وحواء.
وقوله تعالى: ﴿رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ أي: ونساء كثيراً كذلك، فحذفت كثيراً عند ذكر النساء لدلالة السياق عليها، وهذا وارد بكثرة في كتاب الله تعالى، ومنه قول الله تعالى حكاية عن سليمان صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ﴾ [ص: ٣٢]، أي: حتى توارت الشمس، فحذفت لدلالة السياق عليها.
فإن قال قائل: فما هو الدليل على أن النساء كثير؟ قلنا: إنَّ النساء أكثر -لا شك- من الرجال، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء)، وأهل النار أكثر بكثير من أهل الجنة، لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣]، ولقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، إلى غير ذلك.