و هنا يرد لها الوجهان:
الأول: فإذا كانت في حق الله فتكون بمعنى تقدس و تعاظم و تنزه عن كل سوء و اكتمل فيه سبحانه كل فضل و علا عن كل شيء في ذاته و صفاته و أفعاله.
الثاني: في حق الخلق فهو الذى فاض خيره و عم فكل خير من فضله و جوده و كل إحسان من رحمته و هكذا.
*** قال بن عاشور: وهذا الكلام يجوز أن يكون مرادا به مجرد الإخبار عن عظمة الله تعالى وكماله ويجوز أن يكون مع ذلك إنشاء ثناء على الله أثناه على نفسه وتعليما للناس كيف يثنون على الله ويحمدونه كما في ( الحمد لله رب العالمين ) : إما على وجه الكناية بالجملة عن إنشاء الثناء وإما باستعمال الصيغة المشتركة بين الإخبار والإنشاء في معنييها ولو صيغ بغير هذا الأسلوب لما احتمل هذين المعنيين.
*** و كل خير في الدنيا إنما هو من الله و الإنسان - وهو مخلوق من أعداد لا يحصيها إلا الله من المخلوقات - إن يعد نعمة الله لا يحصيها فهو كله نعم سمعه نعمه و بصره نعمه و جسده نعمه و روحه نعمه و رزقه نعمه و كل ثانية من الثواني يتجدد عليه من نعم الله ما لا يحصيه و لا يعلمه و لو فقد نعمه من هذه النعم فقط واحده لتوجع و استغاث و ربما سخط و ساء ظنه و المسكين لا ينتبه إلى باقي النعم التى لا تحصر و أن شر الدنيا ليس بشر على الحقيقة إنما هو ابتلاء ليستخرج الله به ما في النفوس و أن الله لا يبتليه ليهينه و لا ليعذبه إنما هو اختبار فراسب و ناجح و نسأل الله العافية و دوامها و تمامها و الحمد و الشكر عليها و نسأل الله من كل خير خزائنه بيد و نعوذ به من كل شر خزائنه بيده.
فالإنسان عبارة عن كتلة مجسده من النعم الإلهية وجوده نعمة حياته نعمة صحته نعمة ماله نعمه و هكذا بل كل ما في الكون من خير على وفرته و ككثرته و عظمته و نحن لا ندرك من الكون إلا القليل إنما هو من الله.
و تأمل في خلق الله الإنسان على هذه الكيفية من الطمع لو له واديان من ذهب لتمنى لهم ثالثا، خلقه الله على هذه الكيفية لا ليعطية ما يريد بل ليعطيه فوق ما يريد و لم يخطر له بباله قط لتعلم أن الله عظيم الكرم و الإحسان.
*** "بيده الملك":
و هنا لطيفتان:
الأولى: أن تقديم المسند وهو ( بيده ) على المسند إليه لإفادة الاختصاص أي الملك بيده لا بيد غيره وهو قصر مبني على عدم الاعتداد بملك غيره ولا بما يتراءى من إعطاء الخلفاء والملوك الاصقاع للأمراء والسلاطين وولاة العهد لأن كل ذلك ملك غير تام لأنه لا يعم المملوكات كلها ولأنه معرض للزوال وملك الله هو الملك الحقيقي قال ( فتعالى الله الملك الحق ) فالناس يتوهمون أمثال ذلك ملكا وليس كما يتوهمون.
الثانية : أن التعريف في ( الملك ) على هذا الوجه تعريف الجنس الذي يشمل جميع أفراد الجنس وهو الاستغراق فما يوجد من أفراده فرد إلا وهو مما في قدرة الله فهو يعطيه وهو يمنعه.
*** قال بن عاشور: والملك بضم الميم : اسم لأكمل أحوال الملك بكسر الميم والملك بالكسر جنس للملك بالضم وفسر الملك المضموم بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم وهو تفسير قاصر وأرى أن يفسر بأنه تصرف في طائفة من الناس ووطنهم تصرفا كاملا بتدبير ورعاية فكل ملك " بالضم " ملك " بالكسر " وليس كل ملك ملكا.
*** فالله سبحانه له كمال الملك أختص به وحده كل ما في الكون مِلكه و خاضعة لأمره و مُلكه ليس لأحد دونه ذرة من مُلك أو مِلك حقيقي و كل ملك في الدنيا مجازى فكلها عواري مستعارة توشك أن تفارق أصحابها إلى غيرهم لتتم الفتنة و الابتلاء في الدنيا و ما دام الملك لأحد في الدنيا و لو ثبت لمن قبلنا لما وصل إلينا و لو صدق ظن الأمم المتجبرة التي قهرت الخلق في وقت ما أنه لا يزول ملكها
لما رأينا تحول الملك من أمة لأمة أبدا.
و الحق أن الله سبحانه منفرد بملك السموات و الأرض و من فيهن و ما سوى ذلك لا شريك له و لا معين و لا نظير و لا كفء و
يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء و يعز من يشاء و يذل من يشاء لا راد لأمره و لا معقب لحكمه أمره متحقق و قهره نافذ و البشر في دنياهم يبتلون بصور الملك – و هم على الحقيقة لا يملكون ذرة فما دونها بل حتى لا يملكون أنفسهم و لا يملكون لأنفسهم شيء- ليستخرج الله بها ما في النفوس و كل يسطر في صحيفته ما سيلقى به ربه - فاللهم غفرا- فهذا متكبر و ذاك جبار و أخر محارب لله و رسله و غيرهم.
الله الملك له الحكم الكوني النافذ فإذا أراد شيئا يقول له كن فيكون مهما كان و مهما بلغ لا يعجزه شيء و لا يتعاظمه شيء يمهل العباد رحمة و حكمة و يبتلى أحدهم بالضراء ليرى سبحانه عمله و يبتلى أحدهم بالملك و السلطان ليرى عمله فذاك مبتلى و ذاك مبتلى و هم عند الله سواء أكرمهم عليه أتقاهم و رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره و هو عند الله خير من ملء الأرض من المتكبرين و المتجبرين.
من أكرم يوسف أم الملك ؟موسي أم فرعون؟ هود و صالح و لوط أم الملأ من قومهم؟ الإجابة التي لا ريب فيها أنهم خير من ملء الأرض من أمثال هؤلاء.
فالله هو الذي أعطى كل إنسان رزقه و هو سبحانه قادر على نزعه في أي لحظة فكيف يتكبر أحد على ربه و بماذا أيتكبر بالعارية المسترده من ربه التى لا يأمن زوالها؟ أيتكبر على الخلق بما أعطاه الله منه و فضلا أو ابتلاء و حكمه و هو لا يعرف مصيره في أى لحظه فضلا عن مصير ما في يديه.
و الله له الحكم و الأمر الشرعي النافذ فهو المستحق لأن يطاع هو الملك على الحقيقة خلق و دبر و رزق و عدل و رحم فمن أولي منه بالطاعة و الأنقياد و تمام الحب و الخضوع فمن نازعه أمر فقد نازعه ربوبيته.
و الله يمكن للأمة العادلة و لو كافرة و ينزع الملك من الظالمة و لو مسلمة و الله له في شأنه تدبير و تصريف على أتم الحكمة و الرحمة و هو أعلم سبحانه و الأمة الظالمة و لو مسلمة فتنة للناس في دينها وعذاب لها في دنياها.
و هل أفسد الدين إلا الملوك و أحبار سوء و رهبانها
و الله سبحانه لا يتصرف في ملكة إلا بتمام الحمد و الخلق يحاسبون بمثاقيل الذر إلا ما عفا الله "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره" فالحكمة تامة و الرحمة تامة فلا تظنن أبدا أن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار و لا تظنن الله يظلم أحدا و لا يغبن أحدا فالله أعظم و أكرم من ذلك و الخير و الشر في الدنيا مجاز إنما الخير و الشر في الآخرة.
أين ملك الملوك و أين قهرهم و جنودهم و أنصارهم و عبادهم أين ذهبوا هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا
أين فرعون و زبانيته؟ و أين النمرود و حاشيته. و أين الجنود ؟ فرعون و ثمود؟ أين الرؤساء و الجنرالات و اللواءات و الضباط؟ أين من قهروا الأمم و أذلوا الشعوب و ساموا الخلق سوء العذاب.
و لو سمت همة رجل فقام فأمر و نهى طاغية فصبر على ما أصابه في الله انتهى الأمر و لا يستوون فالأول من سادة الشهداء و الأخر من الجبابرة الطغاه و نسأل الله العافية.
و الله سبحانه يستحق حمدا لا يقدر مقداره إلا هو على عدله و ملكه و رحمته و سائر أسماءه و صفاته و إلا فلو لم يكن الله سبحانه عادلا برا لا رحيما فماذا كان الخلق سيفعلون ؟ و فالمخلوق يرحم ليرحم و الله يرحم لأنه رحيم و المخلوق يعدل خوفا من العقوبة أو خوفا من أن يظلم و الله يعدل لأن صفته العدل و المخلوق يَبر ليُبر و الله هو البر الرحيم و هكذا.
*** وجملة ( وهو على كل شيء قدير ) معطوفة على جملة ( بيده الملك ) التي هي صلة الموصول وهي تعميم بعد تخصيص لتكميل المقصود من الصلة إذ أفادت الصلة عموم تصرفه في الموجودات وأفادت هذه عموم تصرفه في الموجودات والمعدومات بالإعدام للموجودات والإيجاد للمعدومات فيكون قوله ( وهو على كل شيء قدير ) مفيدا معنى آخر غير ما أفاده قوله ( بيده الملك ) تفادي من أن يكون معناه تأكيدا لمعنى ( بيده الملك ) وتكون هذه الجملة تتميما للصلة. وفي معنى صلة ثانية ثم عطفت ولم يكرر فيها اسم موصول بخلاف قوله ( الذي خلق الموت ) وقوله ( الذي خلق سبع سماوات ).
*** قال بن عاشور: و ( شيء ) : ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهذا هو الإطلاق الأصلي في اللغة. وقد يطلق ( الشيء ) على خصوص الموجود بحسب دلالة القرائن والمقامات.
*** وتقديم المجرور في قوله ( على كل شيء قدير ) للاهتمام بما فيه من التعميم ولإبطال دعوى المشركين نسبتهم الإلهية لأصنامهم مع اعترافهم بأنه لا تقدر على خلق السماوات والأرض ولا على الإحياء والإماتة.
*** الله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء بل لا يتعاظمه شيء قال تعالى "الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل" الأرض في ملكه ذره و عظمته صفة له لا نحيط بكنهها و لا حول و لا قوة إلا به.
فكل جبار لا يستطيع ان يحرك ذرة إلا بإذن الله و إنما مكنهم الله حكمة و عدلا و في الحياة الحقيقة في الآخرة لا سبيل لذلك إنما هى فتنة و ابتلاء مؤقت.
وغاية مرادك من الله قليل قليل في ملكه و إنما الأمر في رضاه و إنما الأمر أن يريد و يأذن و سبيل ذلك أن يحبك و يرضى عنك و سبيل ذلك العمل الصالح فذلك العمل الصالح سبيلك إلى كل كرامة و سعادة لم تخطر ببالك قط على حرصك و طمعك فخذ من الخير و أساله و أرجه و أقبل بقلبك و روحك و أعظم الطلب و الرجاء و استغفر من الذنب اسأله باسمه الأعظم و توسل إليه به و استعن به و توكل عليه فهو على كل شيء قدير و من تدبر في هذه الصفات لا بد أن يرجو بقلبه و يشتد رجاءه و الله المستعان.
*** الأية جمعت ثلاثة حقائق من أعظم حقائق الكون:
الأولى : أن الله تقدس في ذاته فتنزه عن كل شر و كمل فيه كل خير و عظم خيره حتى فاضت بحور إنعامه على خلقه في الدنيا فما بالك بالمصطفين في الآخرة.
الثانية: أن الملك كله في يديه يدبره بتمام الحمد و الخلق مبتلون بما فيما بين أيديهم من السلطان و لا ملك لهم على الحقيقة إنما هي عارية مسترده.
الثالثه: أنه سبحانه لا يعجزه شيء و لا يتعاظمه بل هو على كل شيء قدير.
و اجتماع الملك التام مع القدرة التامة يعطي كمالا فوق الكمال فإذا كملت صفات الذات مع ذلك عظم ذلك الكمال فإذا أضيف لذلك أن عم خيره و فاض و انتشر فهذا هو تفسير الأية التي بين أيدينا.
فهذا هو الله الذي نعبده و نخضع له و نحبه و هذه قوانين الحياة التي نحياها علمها من علمها و جهلها من جهلها و شاء كمن شاء و أبى من أبى و رضي من رضي و سخط من سخط.
إذا استحضر المسلم هذه المعاني في قلب فلا شك أنه بعدها لن يكون كحاله قبلها و الله أعلم و هو المستعان نسأله العافيه و العفو و الغفران.
و ما أشبه هذه الأية بالذكر المأثور "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك و له الحمد و هو علي كل شيء قدير" فإن "تبارك" فيها تقديس الله و تنزيهه عن الشريك و المثيل و عن كل ما لا يليق به سبحانه و أيضا التقديس يلزم منه تمام الحمد و بعد ذلك يشترك النصان في الفضائل.
و لا يخفى أن هذا الذكر من أعظم الأذكار إن لم يكن أعظمها على الإطلاق فاشتراك الأية معه في المعنى يدل على عظمة هذه الأية و فضلها.
بل أقول و لله العلم أن السورة سميت بسورة الملك من هذه الأية الجليلة التى فيها تمام الملك و تمام الحمد و القدرة.
*** الفوائد العملية في الأية:
١ – هذه السورة فيها إشارة لعظيم ملك الله و بذلك سميت فليتدبر ذلك.
٢ – و هي مكية أي من القرآن الذي يغرس العقائد التي تبنى عليها الشخصية المسلمة.
٣ – و هي تشفع لصاحبها حتى يغفر له خاصمت عن صاحبها حتى أدخلته الجنة.
٤ – و هي المانعة من عذاب القبر.
٥ – و من قرأها في ليل