تفسير سورة الملك | الآية الخامسة
" وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ " الأية : ٥
*** انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خلقه السماوات إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإتقان في خلق السماوات السبع وذكره بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالة على إتقان الصنع لكنها نصب أعين المخاطبين ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم.
*** قال في التحرير: وتأكيد الخبر ب ( قد ) لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد ب ( هل ) أخت ( قد ) في الاستفهام.
*** " السماء الدنيا ":
هي السماء الأولى و سميت كذلك لأنه أقرب ما يكون للأرض من السموات فالدنو أمر نسبي و الله أعلم و سيأتي في كلام الدكتور النجار تعريف السماء و التعليق عليه.
*** " بمصابيح " :
أي بنجوم مضيئة كالمصابيح والمصابيح السرج سميت بها الكواكب قال تعالى :"إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب"، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فقيل : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة.
وسميت النجوم هنا مصابيح على التشبيه على حسن المنظر فهو تشبيه بليغ وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال أي زيناها لكم مثل الامتنان في قوله ( ولكم فيها جمال ) في سورة النحل.
والمقصد : التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم.
وعدل عن تعريف ( مصابيح ) باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم.
و المصابيح هنا هي ما يتراءى في السماء من النجوم و الكواكب.
*** يقول أحد الأفاضل و هو مهندس مسلم:
وهنا يتجلى قول الله تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) [الحجر: ١٦-١٧]. فهذه الآيات العظيمة تتطابق بشكل مذهل مع الحقائق العلمية، فالسماء تبدو لنا بواسطة المراصد العملاقة بألوان زاهية وكأن المجرات تزينها! والسماء تحوي بروجاً كونية مثل النسيج الكوني الذي يزين السماء وهو عبارة عن بلايين المجرات التي تصطف وفق مشهد مهيب وبديع يشهد على عظمة الخالق تبارك وتعالى. وقد حفظ الله هذه السماء بواسطة ملاين الشهب التي تصطدم يومياً مع غلاف الأرض (سماء الأرض) وتحترق وتحرق معها الشياطين الذين يحاولون الصعود خارج الأرض.
*** قال سبحانه "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" فآثار اسمه الرحمن تظهر في خلقه فهنا منة و رحمة بأهل الدنيا بأن زين لهم دارهم التي هي الدنيا بل في كل يوم تجد السماء ترسم فيها لوحات من أعظم ما يكون في الإبداع و الجمال و لا يزال منظر الشروق و الغروب ملهما للشعراء و الأدباء.
فالله الرحيم الكريم أحكم خلقه و أتقنه و رحم عباده فلم يعطهم و ييسر لهم فقط ما يتم به معاشهم بل ما يزين دنياهم و ليس فقط ما يزين حياتهم بل ما يزين الأرض التي يحيون عليها و هذا مظهر واحد مما لا يحصى من مظاهر رحمته التي قلما ينتبه إليها.
*** هذا خلق الله و هذا ملكه خلق الموت و الحياة و السماوات سبع طباقا و زينهم بالكواكب سبحان الله ما أتمها من زينة و أروعها
و إذا كانت هذه زينته لسماء الدنيا التي لا تساوى عنده جناح بعوضة فكيف بثوابه و جنته و كرامته لأولياءه؟
يقول الله سبحانه في الحديث القدسي:" يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني و لن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي ! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي ! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي ! لو أن أولكم و آخركم و إنسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر"
و قال صلى الله عليه و سلم :"لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا و ما فيها و لقاب قوس أحدكم أو موضع قده في الجنة خير من الدنيا و ما فيها و لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحا و لأضاءت ما بينهما و لنصيفها على رأسها خير من الدنيا و ما فيها" صححه الألباني.
فتأمل كيف زينها الله حتى أن حجابها خير من الدنيا و ما فيها.
و قال صلى الله عليه و سلم :"الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون" صححه الألباني.
فهذه خيمة فما بالك بالقصور.
و قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللهُ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اذْهَب فَادْخُلِ الْجَنَّةَ فَيَأْتِيَها فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى، فَيَقُولُ اذْهَب فادْخُلِ الْجَنَّةَ فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا، أَوْ إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا.
*** و من نظر نظرا أوليا إلى عظيم زينة السماء بتلك المصابيح المتلألئة وجد البون الشاسع بين قدرة الله و قدرة البشر و من علم من علوم الدنيا ما عرفوه إلى الآن عن هذا العالم لخضع و ذل و انكسروا و ما علموا إلا قليلا من العلوم فكل علومهم حتى الآن إنما هي عن طريق الرصد بالمناظير أو مراقبة الإشعاعات و الموجات و نحوها فما بالك لو غاصوا في أعماق هذا الكون و عاينوا أجزاءه ماذا سيجدون؟
و قطر الجزء المدرك من الكون أربعة و عشرون ألف مليون سنة ضوئية و هذا قطره و ليس مساحته فما بالك بالجزء غير المدرك من الكون و الكون المدرك لا يدركون كل ما فيه و لا حتى جُله و لا نصفه بل يعلمون عنه القشور الذي ينبغي أن يجعلهم ينكسرون و يخضعون لله العظيم.
*** قال أبو حيان: ومصابيح مطلق الأعلام، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح.
و قال الرازي: اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا، وذلك لأن السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سموات أخرى فوقها، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح.
قلت : أما أن السماء الدنيا هي التي اختصت بالنجوم و الكواكب أو أنها تقع خارجها أو بعضها في داخلها و البعض الأخر خارجها فهذا مما لا أعلم فيه شيئا من الوحي و مثله لا يقال بالظن بل لا بد فيه من نقل صحيح أو أثارة من علم فالدليل هنا يحتمل الوجهان و لكن سواء كانت تلك الكواكب و النجوم مركوزة في السماء الدنيا أو كانت في السماوات الأخرى فالرسالة قد وصلت و هي عظيم خلق الله و صنعه و أنه سبحانه على كل شيء قدير و ما هذا الكون المرئي إلا يسير في الكرسي و العرش أعظم و هذا الكون المرئي فاق في حده كل خيال و الله أعلم بما لا ندركه و لا نراه و لو أراد الله سبحانه أن يخلق ملايين و بلايين الأضعاف المضاعفة لهذا خلقه و فوق ذلك فلا حد لقدرته سبحانه هذه هي الرسالة التي ينبغي أن يعيها كل موحد بالله سبحانه و صدق الله سبحانه " والسماء بنيناها بأيد و إنا لموسعون ".
*** " وجعلناها رجوماً للشياطين " :
الضمير في جعلناها إما يعود على السماء أو يعود المصابيح و توجية الأول: جعلنا منها، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم قاله أبو حيان.
والظاهر عوده على مصابيح ونسب الرجم إليها، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل عنها، والكوكب قارّ في ملكه على حاله.
فالشهاب كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية لا تنقص.
قال بن عاشور: وضمير الغائبة في ( جعلناها ) المتبادر أنه عائد إلى المصابيح أي أن المصابيح رجوم للشياطين
ومعنى جعل المصابيح رجوما جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) وقول العرب : قتلت هذيل رضيع بني ليث تمام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في ( جعلناها ) عائد إلى ( السماء الدنيا ) على تقدير : وجعلنا منها رجوما إما على حذف حرف الجر وإما على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ) في سورة البقرة ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعا إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف ( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر ) وقصتها هي المشار إليها بقوله ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) فالتقدير : فجعلنا منها أي من القرية نكالا وهم القوم الذين قيل لهم ( كونوا قردة خاسئين ).
*** "رجوما للشياطين":
١ - الرجوم جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به تسمية للمفعول بالمصدر مثل الخلق بمعنى المخلوق في قوله تعالى ( هذا خلق الله ) و الشياطين هم مسترقو السمع، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب.
قال تعالى :"إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (٧) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠)" [الصافات : ٦ - ١٠]
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ أَخْبَرَنِى رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ : بَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رُمِىَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ إِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِىَ بِمِثْلِ هَذَا؟ ».
قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالُوا : كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ مَاتَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- :« فَإِنَّهَا لاَ تُرْمَى لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ ولَكِنَّ رَبَّنَا إِذَا قَضَى أَمْرًا سَبَّحَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَقُولُ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ فَيُخْبِرُونَهُمْ فَيَسْتَخْبِرُ أَهْلُ السَّمَوَاتِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيُلْقُونَهُ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ فَمَا جَاءُوا بِه


الصفحة التالية
Icon