ومع عنف هذا المشهد الحسي وشدته فإن الإنسان ليلتقي بأناس من هذا النوع، يخيل إليه وهم لا يرون الحق الواضح ولا يدركونه أن هنالك حائلا عنيفا كهذا بينهم وبينه. وأنه إذا لم تكن هذه الأغلال في الأيدي، وإذا لم تكن الرؤوس مقمحة ومجبرة على الارتفاع، فإن نفوسهم وبصائرهم كذلك.. مشدودة عن الهدى قسرا وملفوتة عن الحق لفتا. وبينها وبين دلائل الهدى سد من هنا وسد من هناك. وكذلك كان أولئك الذين واجهوا هذا القرآن بمثل ذلك الإنكار والجحود. وهو يصدع بالحجة، ويدلي بالبرهان. وهو بذاته حجة ذات سلطان لا يتماسك لها إنسان.
«وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ».. فلقد قضى اللّه فيهم بأمره، بما علمه من طبيعة قلوبهم التي لا ينفذ إليها الإيمان. ولا ينفع الإنذار قلبا غير مهيأ للإيمان، مشدود عنه، محال بينه وبينه بالسدود. فالإنذار لا يخلق القلوب، إنما يوقظ القلب الحي المستعد للتلقي :«إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ، فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ»..
والذكر يراد به هنا القرآن - على الأرجح - والذي اتبع القرآن، وخشي الرحمن دون أن يراه، هو الذي ينتفع بالإنذار، فكأنه هو وحده الذي وجه إليه الإنذار. وكأنما الرسول - ﷺ - قد خصه به، وإن كان قد عمم. إلا أن أولئك حيل بينهم وبين تلقيه، فانحصر في من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب.


الصفحة التالية
Icon