أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة. أو آنية أو أسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائنا في دقته ما يكون.. ولكن اللّه المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز.. سر الحياة.. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، ولا يعرف سره بشر.. وهكذا القرآن.. حروف وكلمات يصوغ منها البشر كلاما وأوزانا، ويجعل منها اللّه قرآنا وفرقانا، والفرق بين صنع البشر وصنع اللّه من هذه الحروف والكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد والروح النابض.. هو الفرق ما بين صورة الحياة وحقيقة الحياة! (١)
يقسم اللّه سبحانه بهذين الحرفين :«يا. سين» كما يقسم بالقرآن الحكيم. وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن. وأن آية كونه من عند اللّه، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف.
ويصف القرآن - وهو يقسم به - بأنه «الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ». والحكمة صفة العاقل. والتعبير على هذا النحو يخلع على القرآن صفة الحياة والقصد والإرادة. وهي من مقتضيات أن يكون حكيما. ومع أن هذا مجاز إلا أنه يصور حقيقة ويقربها. فإن لهذا القرآن لروحا! وإن له لصفات الحي الذي يعاطفك وتعاطفه حين تصفي له قلبك وتصغي له روحك! وإنك لتطلع منه على دخائل وأسرار كلما فتحت له قلبك وخلصت له بروحك! وإنك لتشتاق منه إلى ملامح وسمات، كما تشتاق إلى ملامح الصديق وسماته، حين تصاحبه فترة وتأنس به وتستروح ظلاله! ولقد كان رسول اللّه - ﷺ - يحب أن يسمع تلاوة القرآن من غيره ويقف على الأبواب ينصت إذا سمع من داخلها من يرتل هذا القرآن. كما يقف الحبيب وينصت لسيرة

(١) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (١ / ٣٨)


الصفحة التالية
Icon