متعددة كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم اللّه. فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات.. «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ - إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ»..
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق.. ولكن اللّه يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل اطار واسع عريض يسعها جميعا حين تصلح وتستقيم.. هذا الإطار هو اطار التصور الإيماني الصحيح. الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات فلا يقتلها ولا يكبحها ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح.
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون وحكم عدل يرجع إليه المختصمون وقول فصل ينتهي عنده الجدل، ويثوب الجميع منه إلى اليقين :«فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ».
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى «بِالْحَقِّ».. فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل، والقول الفصل، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم.. لا حق غيره. ولا حكم معه. ولا قول بعده. وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض.. بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ولا يقوم على الأرض السلام ولا يدخل الناس في السلم بحال.
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف.. إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق وهو