قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ ؛ ﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ في موضع خفض بدلٌ من ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ ﴾. وذهب بعضُهم إلى (١٦٤٩; لصَّابِرِينَ) نُصِبَ بالمدحِ. ومعنى الآية :﴿ الصَّابِرِينَ ﴾ على طاعَة اللهِ وعلى الشدائدِ والمصائب وعلى ارتكَاب النَّهي وعلى البأسَاء والضرَّاء، ﴿ وَالصَّادِقِينَ ﴾ في إيمانِهم وأقوالِهم وأفعالِهم، فإنَّ الصدقَ قد يقعُ في القول كما يقعُ في الفعلِ، يقالُ : صَدَقَ فلانٌ في القتالِ، وصَدَقَ في الجملةِ أي حَقَّقَ. قال قتادةُ في تفسير الصَّادِقِينَ :(هُمْ قَوْمٌ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَألْسِنَتُهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلاَنِيَةِ). ﴿ وَالْقَانِتِينَ ﴾ أي القائمينَ بعبادةِ الله المطيعين، ﴿ وَالْمُنْفِقِينَ ﴾ يعني في طاعَة اللهِ.
وقوله :﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ قال قتادةُ :(أرَادَ بهِ الْمُصَلِّيْنَ بالأَسْحَار) قال أنسُ بن مالك :(أرَادَ بهِ السَّائِلِيْنَ الْمَغْفِرَةَ بالأسْحَار)، وقال الحسنُ :(انْتَهَتْ صَلاَتُهُمْ إلَى وَقْتِ السَّحَرِ ؛ ثُمَّ كَانَ بَعْدَهَا الاسْتِغْفَارُ)، وعن إبراهيمَ بنِ حاطبٍ عن أبيه قالَ :(سَمِعْتُ صَوْتاً فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ سَحَراً يَقولُ : إلَهِي دَعَوْتَنِي فَأَجَبْتُكَ ؛ وأَمَرْتَنِي فَأَطْعْتُكَ ؛ وَهَذا سَحَرٌ فَاغْفِرْ لِي. فَنَظَرْتُ فَإذا هُوَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه).
روي عن النبيِّ ﷺ أنهُ قالَ :" ثَلاَثَةُ أصْوَاتٍ يُحِبُّهُمُ اللهُ : أصْوَاتُ الدِّيَكِ، وَصَوْتُ الَّذِي يَقْرَأ الْقُرْآنَ، وَصَوْتُ الْمُسْتَغْفِرِيْنَ بالأسْحَارِ " وروي أنَّ داودَ رضي الله عنه سَأَلَ جِبْرِيْلَ : أيُّ اللَّيْلِ أفْضَلُ ؟ فَقَالَ : لاَ أدْري إلاَّ أنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ فِي وَقْتِ السَّحَرِ. وقال سفيانُ الثوريُّ :(إنَّ للهِ ريْحاً يُقَالُ لَهَا الصُّبْحَةُ تَهُبُّ وَقْتَ السَّحَرِ ؛ تَحْمِلُ الأذْكَارَ وَالاسْتِغْفَارَ إلَى الْمَلِكِ الْجَبَّار)، وقال :(بَلَغَنَا أنَّهُ إذا كَانَ أوَّلُ اللَّيْلِ نَادَى مُنَادٍ : إلاَ لِيَقُمِ الْعَابدُونَ، فَيَقُومُونَ فَيُصَلُّونَ مَا شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ فِي شَطْرِ اللَّيْلِ : ألاَّ لِيَقُمِ الْقَانِتُونَ، فَيَقُومُونَ كَذِلِكَ فَيُصَلُّونَ، فَإذا كَانَ السَّحَرُ نَادَى مُنادٍ : أيْنَ الْمُسْتَغْفِرُونَ ؟ فِيَسْتَغْفِرُ أُوْلَئِكَ ؛ فَإذا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى مُنَادٍ : ألاَ لِيَقُمِ الْغَافِلُونَ ؛ فَيَقُومُونَ مِنْ فِرَاشِهِمْ كَالْمَوْتَى إذا نُشِرُوا مِنْ قُبُورهِمْ). وقال لُقمان لابنهِ :(يَا بُنَيَّ لاَ يَكُونَنَّ الدِّيْكُ أكْيَسَ مِنْكَ ؛ يُنَادِي بالأسْحَارِ وَأَنْتَ نَائِمٌ). والسَّحَرُ : هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.