قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أبَيْرِقَ سَارقِ الدِّرْعِ) وقد مضت قصَّتهُ في سورةِ النساء، ثم صارت عامَّة في جميعِ الناس. ومعنى الآية : والسارقُ من الرجالِ والسارقةُ من النِّساء فاقطَعُوا أيدِيَهُما أي إيمانِهِمَا كذا تأوَّلَهُ ابنُ عباس. وفي قراءةِ ابن مسعود :(فَاقْطَعُواْ أيْمَانَهُمَا).
وقرأ عيسى بن عمر :(وَالسَّارقَ وَالسَّارقَةَ) بالنصب على إضمار اقطَعُوا السارقَ والسارقةَ، كما تقولُ : زَيداً اضرِبهُ، والقراءة المختارةُ : الرفعُ ؛ لأن القطعَ على الأيدِي لا على السارقِ. وقال المبرِّدُ :(لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْكَلاَمِ إلَى وَاحِدٍ بعَيْنِهِ، وَإنَّمَا مَعْنَاهُ : مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، بِخِلاَفِ قَوْلِكَ : زَيْداً اضْرِبْهُ. وَلَوْ أرَادَ سَارقاً بعَيْنِهِ لَكَانَ وَجْهُ الْكَلاَمِ النَّصْبَ). وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ﴾[النور : ٢] ولو أرادَ زانياً بعينهِ لنصبَ.
وإنما ذكرَ أيديَهُما بلفظِ الجمع ؛ لأنه أرادَ أيْمانَهُما ؛ لأنَّ ما كان واحداً فَبَيَّنَهُ بلفظِ الجمع والإضافةِ إلى الاثنين، ومثلُ ذلكَ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾[التحريم : ٤]، والإضافةُ إلى الاثنينِ يدلُّ على أن المرادَ به التثنيةُ دونَ الجمعِ.
فإن قِيْلَ : لأيِّ معنى قدَّمَ اللهُ ذكرَ السارقِ على السَّارقة، وقدَّمَ ذكرَ الزانيةِ على الزانِي ؟ قِيْلَ : لأنَّ السرقةَ في الرجالِ أكثرُ، والنساءُ هي أصلُ الفتنةِ للرجال بالتعريضِ لهم، ولو لَزِمَتِ المرأةُ بيتَها كما أمرَ اللهُ تعالى لم تقَعْ هي، ولا الرجالُ في الزِّنا.
واختلفوا في كم تقطَعُ يدُ السارقِ من المال إذا سرقَهُ، فقال بعضُهم : في عشرةِ دراهمَ فصاعداً، ولا يقطعُ فيما دون ذلك، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ، وكان سُليمان بن يسار لا يقطعُ الخمسَ إلاَّ في خمسةِ دراهمَ. وقال مالكُ :(يُقْطَعُ فِي ثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِداً)، وقال الأوزاعيُّ والشافعي :(يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً).
وقال بعضُهم : يقطع في القليلِ والكثير ولو كان دَانِقاً، وهو قولُ ابنِ عبَّاس. وقال بعضُهم : في درهمٍ.
ولو قطعَ السارقُ ثم عادَ فسرقَ، قُطعت رجلهُ اليُسرَى، فإن سرقَ ثالثاً قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ :(لاَ يُقْطَعُ، لِمَا رُويَ أنَّ عَلِيّاً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أتِيَ بسَارقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أتِيَ بهِ مَرَّةً أخْرَى فَقَطَعَ رجْلَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ أتِيَ بهِ ثَالِثَةً فَضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَقَالَ : إنِّي أسْتَحِي مِنَ اللهِ أنْ لاَ أدَعَ لَهُ يَداً يَسْتَنْجِي بهَا وَلاَ رجْلاً يَمْشِي بَها).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا ﴾ ؛ أي عقوبةً على ما فعَلاَ، وانتصبَ (جَزَاءً) لأنه مفعولٌ له، كأنه قالَ : فاقطَعُوهما لجزاءِ فعلهِما. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ ﴾ ؛ أي عقوبةً وفضيحة من اللهِ. والنَّكَالُ : هو أن يُنَكَّلَ بهِ ليعتبرَ به غيرهُ فَيَنْكَلَ ؛ أي لا يفعلَ مثلَ فعلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ ؛ أي منيعٌ بالنِّقمة من السارقِ، ذو حِكمة فيما حكمَ من القطعِ لما في ذلك من زَجْرِِ السَّارق عن غيِّهم صيانةً لأموالِ الناس.