قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ ؛ أي وأنزلنا إليكَ يا مُحَمَّدُ القرآنَ بالصِّدق، ومُوافقاً لِمَا تقدَّم من الكُتب في التوحيدِ، وبيانِ الحقِّ من الباطلِ، ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ ؛ أي أميناً ومُؤتَمناً على ما قبلهِ من الكتب. ويقال : شَاهداً على الكُتب كلِّها، وهذا وصفٌ خاصٌّ للقرآن دون ما سواهُ.
وأصلُ مُهَيْمِنٍ : مُؤْتَمَنٍ، على وزن مُفَيْعِلٍ من الأمانةِ، إلاّ أن الهاءَ أبدلت من الهمزةِ كما قالوا : أرَقْتُ الماءَ وهرَقْتُ الماءَ، وأنَاكَ وَهُنَاكَ، وهَيْهَاتَ وأيْهَاتَ، ونظيرُ المهيمنِ : مُسَيطِرٌ. قال الشعبيُّ والكسائي ورواية الكلبي عن ابنِ عباس معنى قوله ﴿ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾ أي شَاهداً، قال الشاعرُ : إنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبيِّنَا وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابأي شَاهداً. وقال ابنُ جبير وأبو عبيد والحسن :(أمِيناً)، وهي روايةُ العوفي عن ابنِ عباس. وأمانةُ القرآن أنه أمينٌ على ما قبلَهُ من الكتب وهي فيما أخبرَ به أهل الكتاب في كُتبهم، فإنْ كان ذَلك في القرآنِ فصَدَّقوا وإلاّ كَذبوا. وقال الضحاكُ :(مُهَيْمِناً ؛ أيْ قَاضِياً). وقال عكرمةُ :(دَالاًّ). وقال ابنُ زيدٍ :(مُصَدِّقاً). وقال الخليلُ :(رَقِيباً وَحَافِظاً).
ويقالُ : هَيْمَنَ فلانٌ على كذا إذا شاهدَهُ وحَفِظَهُ. تقولُ العرب للطائرِ إذا طارَ، وحوَّلَ وَكْرَهُ، ورفرفَ على فَرْخِهِ صيانةً له : هَيْمَنَ الطَّيرُ يهَيْمِنُ، وكذلك يقالُ للطائرِ إذا أرخَى جناحَيهِ يسَعُهما بيضُهُ وفرخُهُ ورفرفَ على فرخهِ صيانةً له. ومنه قيلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ : الْمُهَيْمِنُ، أي الرقيبُ الرحيمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ ﴾ ؛ أي فاحكم في الزانِي والزانية بالرَّجم، ويقال : احكُمْ بين بني قُريظة وبني النضير في الجراحاتِ التي بينهم في التَّسوية بين الفريقين، ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ ؛ أي لا تتَّبع مرادَهم، ﴿ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ﴾ ؛ أي جعلنا لكلِّ نبيٍّ منكم يا معشرَ الأنبياءِ فرائضَ وسُنناً، والشِّرْعَةُ والشَّرِيعَةُ : هو التخلُّص إلى الجنَّة كشريعةِ الأنْهَار والحياضِ في الدُّنيا، وهو التخلُّص إلى الشرب والاستقامة، وأصلُ الشِّرْعَةِ من قولهم : شَرَعَ فلانٌ يَشْرَعُ شُروعاً إذا دخلَ في الأمرِ دخولاً ظاهراً، ويقالُ : الشِّرْعَةُ والمنهاجُ كِلاَهُمَا الطريقُ، والطريقُ ها هنا الدِّينُ، وقد يعبَّرُ عن الشيءِ الواحد بلَفظَين مختلفين تأكيداً للكلامِ.
وقال المبرِّدُ :(الشِّرْعَةُ : ابْتِدَاءُ الطَّرِيقِ، وَالْمِنْهَاجُ : الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ). ويقالُ : عنى المنهاجِ : الدلائلُ الواضحة التي يستدلُّ بها على الفرائضِ من كتابٍ وسُنَّة، وَقِيْلَ : معناهُ : لكلٍّ جَعلنا منكم سَبيلاً وسُنَّة. والمنهاجُ : الطريقُ الْمُبينُ الواضحُ.
قال المفسِّرون : عنَى بذلك جميعَ أهلِ الْمِلَلِ المختلفةِ، جعلَ الله لكل ملَّةٍ شِرعَةً ومنهاجاً، فلأَهْلِ التوراةِ شريعةٌ، ولأهلِ الإنجيل شريعةٌ، ولأهلِ القرآن شريعةٌ، يُحِلُّ فيها ما شاءَ ويحرِّمُ فيها ما شاءَ، فالدِّينُ واحدٌ والشريعةُ مختلفة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ ؛ أي لجعلَكم على أمرٍ واحد في دعوةِ جميع الأنبياء، ﴿ وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾ ؛ أي ولكن ليختبرَكم، ﴿ فِي مَآ آتَاكُم ﴾ ؛ فيما أعطَاكُم من الكتب، وفيما أمرَكم من السُّنن والشرائعِ المختلفة، فيتبيَّنُ من يطيعُ اللهَ ومن يعصيه.


الصفحة التالية
Icon