قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ ؛ قرأ ابن السُّمَيقِعِ :(مَفَاتِيْحُ الْغَيْب) بالياء. واختلفُوا في معنى (مَفَاتِحُ الْغَيْب) فروى عبدُالله بن عمرَ : أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قالَ :" مَفَاتِحُ الْغَيْب خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ اللهُ : عِلْمُ السَّاعَةِ، وَنُزُولُ الْغَيْثِ، وَعِلْمُ مَا فِي الأَرْحَامِ، ومَا تَدْري نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَداً، وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأَيِّ أرْضِ تَمُوتُ ". وقال السُّدِّيُّ :(مَفَاتِحُ الْغَيْب : خَزَائِنُ الْغَيْب) وَهِيَ الْمَقْدُورَاتُ الَّتِي يُفْـتَحُ بهَا مَا فِي الْغَيْب، وَسُمِّيَتِ الْخِزَانَةُ مِفْتَاحاً ؛ لأَنَّهُ يَنْفَتِحُ مِنْهُ الأَمْرُ).
وقيل :﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ ما ينفتحُ به علمُ ما في الغيب من وقتِ نزول العذاب الذي كانوا يستعجلُون به وغيرُ ذلك. قيل : معناهُ :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ أي نزولُ العذاب لا يَعلمُ متَى ينْزل ما غابَ عنكم من الثواب والعقاب، وما يصيرُ إليه من أمرِي وأمرِكم إلا هوُ. وقيل : معناهُ :﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْب ﴾ الآجَالُ وأحوالُ العباد من السَّعادة والشَّقاوةِ، وعواقب الأمور، وخواتِم الأعمال. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه :(أوْتِيَ نَبيُّكُمْ عليه السلام كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ مَفَاتِحَ الْغَيْب). وَالْمَفَاتِحَ جَمْعُ مِفْتَحٍ، وَالْمَفَاتِيْحُ جَمْعُ مِفْتَاحٍ ؛ وهو معرفةُ المغيَّب.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ؛ أي يَعْلَمُ ما في البرِّ من النباتِ والْخَلْقِ ؛ وَما في الْبَحْرِ من الدواب والعجائب. وقيل : يعلمُ رزقَ كلِّ مَنْ في البرِّ والبحر، يسوقُ إلى كلِّ ذي روحٍ رزقَهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس :(مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي الْبَرِّ إلاَّ وَبهَا مَلَكٌ مُوكَّلٌ يَعْلَمُ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِهَا، وَيَعْلَمُ عَدَدَ مَا بَقِيَ عَلَى الشَّجَرَةِ مِنَ الْوَرَقِ وَمَا يَسْقُطُ مِنْهُ). وقيل : معنى الآيةِ :﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ ﴾ من أوراقِ الشَّجر، ﴿ إِلاَّ يَعْلَمُهَا ﴾ اللهُ ثابتةً وساقطةً، ويعلمُ متَى سقوطُها وموضعُ سقوطها.
قَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ﴾ ؛ أي كلُّ حبَّة تكون في الأرضِ حتى الحبَّةُ التي تكون تحتَ الصخرة التي هي أسفلُ الأرضين يعلمُها الله، وقيل : أرادَ كلَّ حبَّة تكون في شُقوق الأرضِ مِمَّا يخرجُ منها النبات. ومن قرأ (وَلاَ حَبَّةٌ) بالرفعِ فعلى الابتداء ؛ وخبرهُ ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾.
وَقَوْلَهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ ؛ أرادَ بالرَّطْب الماءَ والخضر، وباليابسِ الحجرَ والمدرَ، كلُّ ذلك مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظ، أثبتَ اللهُ تعالى فيه كلَّ ما يخلقُ قبلَ أن يخلقَهُ، كما قالت تعالى :﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ ﴾[الحديد : ٢٢].
وَاعْلَمْ : أنهُ قد أثبتَ ما خَلَقَ قبل خلقِهِ. والرطبُ واليابس عبارةٌ عن جميع الأشياءِ التي تكون في السَّموات والأرضِ ؛ لأنَّها تخلق من أحدِ هاتين الصِّفتين. وعن النبِيُّ ﷺ أنهُ قال :" مَا زَرْعٌ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ ثِمَارٌ عَلَى الأَشْجَار ؛ إلاَّ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، رزْقُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ".
فإن قيلَ : ما الفائدةُ في كون ذلك مكتوباً في اللَّوح مع أنَّ اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ، وأنه كان عالِماً بذلك قبلَ أن يخلقَه وقبل أن يكتبَه ؛ ولم يكتُبها ليحفظَها ويدريها. قيل : فائدتهُ أن الحوادثَ إذا حدثت موافقةً للمكتوب، ازدادَتِ الملائكةُ بذلك علماً ويقيناً بعِظَمِ صفاتِ الله عَزَّ وَجَلُّ.