قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ ؛ وذلكَ : أنَّ اللهَ تعَالى لَمَّا عيَّرَ المشركينَ بعبادةِ الأصنامِ بقوله :﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾[الأعراف : ٥٣] سَأَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ فقالوا : يا مُحَمَّدُ ؛ مَنْ رَبُّكَ الذي تدعُونا إليه ؟ فأرادُوا بذلك أن يَجْحَدُوا معنى في أسمائهِ، وفي شيء من أفعاله فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةِ، فتحيَّروا وعجَزُوا عن الجواب.
ومعنى الآية : أنَّ خالِقَكم ورازقَكُم هو اللهُ الذي ابتدأ خَلْقَ السَّمَواتِ والأَرض لا على مثالٍ سابق ؛ فَوَحِّدُوهُ يا أهلَ مكَّةَ واعبدوهُ وأطيعوهُ ؛ ودعُوا هذه الأصنامَ ؛ فإنَّها لم تَخْلُقْ سَماءً ولا أرضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ قال ابنُ عَبَّاس :(أوَّلُهَا الأحَدُ وَآخِرُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ). قال الحسنُ :(هِيَ سِتَّةِ أيَّامٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا). ويقالُ : في سِتَّةِ ساعاتٍ من ستة أيَّامٍ من أوَّل أيَّامِ الدُّنيا. ولو شاءَ لَخَلَقَهَا في أسرعِ من اللَّحظةِ، ولكنه عَلَّمَ عبادَهُ التَّأَنِّي والرِّفْقَ والتدبيرَ والتثبُّتَ في الأمور.
ٌَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ ؛ اختلفَ المفسِّرون في ذلكَ ؛ قال بعضُهم : يطلقُ الاستواءُ كما نَطَقَ به القُرْآنُ ولا يكيِّفُ، كما أثْبَتَ اللهُ ولا نُكَيِّفُهُ. وهذا القولُ مَحْكِيٌّ عن مالكِ بنِ أنسٍ، فإنه سُئِلَ عن معنى هذه الآية ؛ فقال :(الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالإيْمَانُ بهِ وَاجِبٌ، وَالْجُحُودُ بهِ كُفْرٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بدْعَةٌ).
وقال بعضهُمْ : معنى (اسْتَوَى) : اسْتَوْلَى، كما يقال : اسْتَواءَ الأميرُ على بلدِ كذا ؛ أي اسْتَوْلَى عليهِ واحتوَى وأحرزه، ولا يرادُ بذلكَ الجلوسُ. قال الشاعرُ : قَدِ اسْتَوَى بشْرُ عَلَى الْعِرَاق مِنْ غَيْر سَيْفٍ ودَم مِهْرَاقأراد بذلكَ بشْرَ بْنَ مَرْوَانٍ، واستواءَهُ على العراقِ : لا الْمَلِكَ.
وقال بعضُهم : لفظ الاستواءِ في الآيةِ كنايةٌ عن نَفَاذِ الأمْرِ وعِظَمِ القُدْرَةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ثُمَّ أقبلَ على خَلْقِ العرشِ وعَمَدَ إلى خَلْقِهِ، وكذلكَ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ ﴾[فصلت : ١١] أي عَمَدَ إلى خَلْقِ السَّماءِ.
فإن قِيْلَ : ما معنى دخول (ثُمَّ) في قولهِ تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾، و(ثُمَّ) تكون للحَادِثِ، واستيلاءُ اللهِ تعالى واقتدارهُ ومُلكه للأشياءِ ثابتٌ فيما لَمْ يَزَلْ ولاَ يزالُ ؟ قِيْلَ : معناه : ثُمَّ رَفَعَ العرشَ فوقَ السَّمواتِ واستولَى عليهِ. وإنَّما أدخلَ (ثُمّ) مُتَّصِلةً في اللفظ بالاستواءِ ؛ لأن الدلالة قد دَلَّتْ من جهةِ العقل على أنَّ اقتدارَهُ على الأمور ثابتٌ فيما لم يزل. وهذا مثلُ قولهِ تعالى :﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ ﴾[محمد : ٣١] أي حتى يُجَاهِدَ الْمُجَاهِدُونَ منكم ونحنُ عَالِمونَ بهم.
ويقال : معنى (ثُمَّ) هنا بمعنى الواو على طريق الجمع والعطف دون التَّراخِي، فإنَّ خَلْقَ العرشِ والاستيلاء عليه كان قَبْلَ خَلْق السَّمواتِ والأَرضِ. وقد وردَ في الخبر :" أنَّ أوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ اللَّوْحُ، فأَمَرَ اللهُ الْقَلَمَ أنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ خَلَقَ الْعَرِْشَ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ "