قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ﴾ ؛ أي ادْعُوهُ علانيةً وسِرّاً، فإنَّ التَّضَرُّعَ من الضَّرَاعَةِ وهي إظهارُ شدَّة الحاجةِ. ويقالُ : معنى التَّضَرُّعِ : التَّمَلُّقُ والتَّخَشُّعُ والْمَيْلُ في الجهادِ، يقال : ضَرَعَ يَضْرَعُ ضَرْعاً إذا مالَ بإِصْبعَيْهِ يَميناً وشِمالاً خَوْفاً وذُلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخُفْيَةً ﴾ أي أدعُوا بالخضوعِ في السِّرِّ ودونَ العلانيةِ فكأنَّ اللهَ تعالى أمرَ في الدعاءِ أن يُجْمَعَ بَيْنَ أن يُخْفِيْهِ وبين أن يَفْعَلَهُ في غايةِ الْخُضُوعِ والانقطاعِ إليه ؛ لإنَّ ذلكَ أبعدُ من الرِّياءِ.
وهذا القولُ أصحُّ من الأوَّلِ لقولهِ ﷺ :" خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ " وعن الحسنِ أنه قالَ :(كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَلا تَسْمَعُ إلاَّ هَمْساً).
وعنْ عُمَرَ رضي الله عنه قالَ :" كَانَ رسُولُ اللهِ ﷺ إذا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لا يَرُدُّهَما حَتَّى يَمْسَحَ بهِمَا وَجْهَهُ " وعن أبي موسَى الأشعريِّ رضي الله عنه قال :" كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فأَشْرَفُوا عَلَى وَادٍ، فَجَعلَ النَّاسُ يُكَبُرونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيَرْفَعُونَ أصْوَاتَهُمْ، فَقَالَ :" إنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أصَمَ وَلاَ غَائِباً، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيْعاً قَرِيْباً ؛ وَإنَّهُ مَعَكُمْ ". وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في مَدْحِ العبدِ الصَّالحِ ورضيَ دُعَاءَهُ :﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً ﴾[مريم : ٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ ؛ أي لا يحبُّ المتجاوِزينَ في الدُّعاءِ. وفي الخبرِ عن رسول الله ﷺ أنه قالَ :" إيَّاكُمْ وَالاعْتِدَاءَ فِي الدُّعَاءِ، فَإنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِيْنَ " واختلفُوا في الاعتداءِ في الدُّعاءِ ؛ قال بعضُهم : هو أن يَدْعُو باللَّعْنِ وَالْخِزْيِ، فيقولُ : لَعَنَ اللهُ فُلاَناً ؛ أخزَى الله فلاناً. أو يَدْعوا بما لا يحلُّ فيجاوزُ حدَّ العبودَّيةِ. وقال بعضُهم : هو أن يَسْأَلَ لنفسهِ منازلَ الأنبياء، أو يسألَ اللهَ شيئاً مِن حكمتهِ أنه يفعلهُ في الدُّعاء. وَقِيْلَ : هو أن يقولَ : أسْأَلُكَ بحقِّ جبريلَِ وبحقِّ الأنبياءِ أن تُعْطِيَنِي كذا. وَقِيْلَ : هو أن يَدْعُو بالصِّياحِ. وَقِيْلَ : هو أن يعملَ عملَ الفُجَّار ويسألَ مسألة الأبرارِ.