﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ ﷺ خَرَجَ إلَى مَكَّةَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ، وَتَجَهَّزَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أصْحَابهِ وَمَعَهُمُ الْهَدْي يَسُوقُونَهَا مَعَ أنْفُسِهِمْ، فَبَلَغَ ذلِكَ قُرَيْشاً فَاسْتَعَدُّواْ لِيَصُدُّوهُ وَأصْحَابَهُ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بالْحُدَيْبيَةِ، فَزِعَ الْمُشْرِكُونَ بنُزُولِهِ ﷺ، فَبَعَثُوا إلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيّ لِيَأْتِيَهُمْ بالْخَبَرِ، فَلَمَّا أتَاهُمْ عُرْوَةُ أبْصَرَ قَوْماً عُمَّاراً لَمْ يَأْتُواْ لِلْقِتَالِ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَأخْبَرَهُمْ بذلِكَ وَهُوَ كَارهٌ لِصَدِّهِمْ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنِ الْكَعْبَةِ، فَشَتَمُوهُ وَاتَّهَمُوهُ.
ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ، فَقَالَ النَّبيُّ :" ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وُجُوهِهِمَا وَلَبُّوا " فَلَمَّا رَجَعَ الرَّجُلاَنِ إلَيْهِمْ قَالاَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ عُرْوَةُ. فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، قَالَ ﷺ حِينَ أبْصَرَهُ :" هَذا رَجُلٌ فَاجِرٌ، وَمَا أرَى إلاَّ قَدْ سَهُلَ أمْرُكُمْ ". فَلَمَّا أتَاهُمْ سُهَيْلُ تَذاكَرُواْ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَادَعَةَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهار، أمَرَ النَّبيُّ ﷺ بالْبَيْعَةِ، فَنَادَى مُنَادِيهِ فِي الْعَزْمِ :" الآنَ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عليه السلام نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَمَرَهُ بالْبَيْعَةِ " فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ ﷺ وَقَدْ جَلَسَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وكَادَتْ تِلْكَ الْبَيْعَةُ فِي صُدُور الْمُشْرِكِينَ.
فَلَمَّا أمْسَوا وَهُمْ عَلَى ذلِكَ، رَمَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللَّيلِ فِي أصْحَاب رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ بالْحِجَارَةِ فَرَمَواْ أعْدَاءَ اللهِ حَتَّى أدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ وَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللهِ. وَأقْبَلَ أشْرَافُهُمْ إلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ هَذا لَمْ يَكُنْ عَنْ رضًى مِنَّا وَلاَ مُمَالأَةً، وَإنَّمَا فَعَلَهُ سُفَهَاؤُنَا، وَعَرَضُوا الصُّلْحَ عَلَى النَّبيِّ ﷺ فَقَبلَهُ، وَلَمْ يُعْطِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الصُّلْحَ حَتَّى قَهَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ بالرَّمْيِ بالْحِجَارَةِ.
فَاصْطَلَحَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أنْ يَتَوَادَعُوا سِنِينَ، عَلَى أنْ يَرْجِعَ النَّبيُّ ﷺ وَأصْحَابُهُ تِلْكَ السَّنَةَ، فَمَنْ لَحِقَ بالنَّبيِّ ﷺ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَقْبَلْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَمَنْ لَحِقَ بالْمُشْرِكِينَ مِنْ أصْحَاب النَّبيِّ ﷺ فَهُوَ مِنْهُمْ. عَلَى أنَّ الْمُسْلِمِينَ إذا شَاؤُا اعْتَمَرُوا الْعَامَ الْقَابلَ فِي هَذا الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيْهِ، عَلَى أنْ لاَ يَحْمِلُواْ بأَرْضِهِمْ سِلاَحاً.
فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى ذلِكَ، وَكَتَبُواْ كِتَابَ الْقَضِيَّةَ بَيْنَ النَّبيِّ ﷺ وَبَيْنَهُمْ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذلِكَ الشَّرْطِ وَجْداً شديداً، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَنْ لَحِقَ بنَا مِنْهُمْ لَمْ نَقْبَلْهُ، وَمَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" أمَّا مَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَأَبْعَدَهُمُ اللهُ، وَأمَّا مَنْ أرَادَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً، وَإنْ يَعْلَمِ اللهُ مِنْهُ الصِّدْقَ يُنَجِّيهِ مِنْهُمْ ".
فَلَمَّا فَرَغُواْ مِنْ كِتَاب الْقَضِيَّةِ، أقْبَلَ جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ وَهُوَ يَرْشِفُ فِي قُيُودِهِ، وَكَانَ أبُوهُ قَدْ أوْثَقَهُ حِينَ خَشِيَ أنْ يَذْهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ ظَهْرَانِ المُسْلِمِينَ ؛ وَقَالَ : إنِّي مِنْكُمْ وَإنِّي أعُوذُ باللهِ أنْ تُرْجِعُونِي إلَى الْكُفَّار.
فَأَرَادَ رجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنْ يَمْنَعُوهُ، وَنَاشَدَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَهْدَ وَالْمِثَاقَ! فَقَالَ ﷺ :" خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ؛ فَسَيُنَجِّيهِ اللهُ مِنْهُمْ ". فَانْطَلَقَ بهِ أبُوهُ، وَكَانَ مَاءُ الْحُدَيْبيَةِ قَدْ قَلَّ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأُتِيَ بدَلْوٍ مِنَ الْمَاءِ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَتَمَضْمَضَ ثُمَّ مَجَّهُ فِي الدَّلْوِ، ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْبئْرِ، فَامْتَلأَتِ الْبئْرُ مَاءً حَتَّى جَعَلُواْ يَغْرِفُونَ مِنْهُ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفَةِ الْبئْرِ، وََكَانَ هَذا شَأْنُ الْحُدَيْبيَةِ.
ولَبثَ رسولُ اللهِ ﷺ شَهراً وَصَيْفاً فوعَدَهم اللهُ خَيراً أنْ يفتحَها لَهم، فلَمَّا رجعَ النبيُّ ﷺ إلى المدينةِ نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾، والفتحُ الْمُبينُ : ما كان من استعلاءِ المسلمين عليهم حتى غلَبُوهم بالحجارةِ وأدخَلُوهم بيوتَهم، وتيسير الصلحِ أيضاً من الفتحِ المبين وظهور النبيِّ ﷺ على خَيبرَ من الفتحِ.
قال :(وَأنْجَى اللهُ أبَا جَنْدَلَ بْنَ سُهَيْلٍ مِنْ أيْدِيهِمْ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً كَرِهُواْ أنْ يَقْعُدُواْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلِمُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لاَ يَقْبَلُهُمْ حَتَّى تَنْقَضِي الْمُدَّةُ، فَجَعَلُواْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إلَى النَّبيِّ ﷺ يُنَاشِدُونَهُ أنْ يَقْبضَهُمْ إلَيْهِ، وَقالُواْ : أنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنِ اخْتَارَكَ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ ؛ فَإنَّهُمْ إنْ يَكُونُوا مَعَكَ كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا، فَلَحِقُوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) ".


الصفحة التالية
Icon