قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ معناهُ : أيُّ شيءٍ لكم في تركِ الإنفاقِ في نُصرَةِ الإسلامِ ومُواساةِ الفُقراءِ وأنتم ميِّتون تَاركون أموالَكم، واللهُ سبحانه يرزُقكم، ويرِثُ ما في السَّموات والأرضِ، يُمِيتُ مَن فيهما ويرِثُ مَن عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ﴾ ؛ معناهُ : لا يستوِي منكم في الفَضلِ مَن أنفقَ مالَهُ وقاتلَ العدوَّ مِن قبلِ فتح مكَّة مع مَن أنفقَ من بعدُ وقاتلَ. قال الكلبيُّ :(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه) قِيْلَ : هذا أنَّهُ كان أوَّلَ مَن أنفقَ المالَ على رسولِ الله ﷺ في سبيلِ الله، وأوَّلَ مَن قاتلَ في الإسلامِ. وقال ابنُ مسعودٍ :(أوَّلُ مَنْ أظْهَرَ إسْلاَمَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النِّبيُّ ﷺ بأَنَّهُ أنْفَقَ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ).
قَالَ العلاءُ بن عمرٍو :" بَيْنَا النَّبيُّ ﷺ جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ، قَدْ خَلَّهَا علَىَ صَدْرهِ بخِلاَلٍ إذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ : مَا لِي أرَى أبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ ؟ فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ إنَّهُ أنْفَقَ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَيَّ، قَالَ : فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ : يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : أرَاضٍ أنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذا أمْ سَاخِطٌ ؟ فَقَالَ ﷺ :" يَا أبَا بَكْرٍ ؛ هَذا جِبْرِيلُ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَيَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : أرَاضٍ أنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذا أمْ سَاخِطٌ ؟ " فَبَكَى أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَقَالَ أعَلَى رَبي أغْضَبُ؟! أنَا عَنْ رَبي رَاضٍ ".
وفي هذه الآيةِ دلالةٌ واضحة وحُجَّةٌ بَيِّنَةٌ على فضلِ أبي بكر وتَقديمِه على سائرِ الصَّحابة، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال :(لاَ أُؤتَي برَجُلٍ فَضَّلَنِي عَلَى أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلاَّ جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ ﴾ ؛ معناهُ : أولئكَ أعظمُ ثَواباً وأفضلُ درجةً عند اللهِ من الذين أنفَقُوا من بعدِ فتحِ مكَّة وقاتَلُوا بعدَهُ، وإنما فضَّلَ اللهُ المنفقِين والمقاتلين من قبلِ الفتحِ ؛ لأن الإنفاقَ والقتالَ في ذلك الوقتِ كان أشدَّ على النفسِ، وكانت الحاجةُ اليها أمَسُّ لقلَّة المسلمِين.
ثم بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ لِكِلاَ الفرِيقين الحسنَى وهو الجنةُ، إلاّ أنَّهم مُتفاوتون في الدَّرجَات فقال :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ ؛ أي وكِلاَ الفريقين وعدَ اللهُ الجنةَ، وقرأ ابنُ عامرٍ (وَكُلٌّ) بالرفعِ على الاستئنافِ على لُغة مَن يقولُ : زيدٌ ضرَبتُ. وقولهُ تعالى :﴿ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ؛ أي عالِمٌ بما يعملهُ كلُّ واحدٍ منكم.