هداية الله العباد إلى طاعته
يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢١] : هذا المقطع الثالث من الآية الكريمة اشتمل على أمرٍ عظيم وهو: أن هداية العباد إلى طاعة رب العباد موقوفة على الله تبارك وتعالى، وأن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يقلِّب العبد في طاعته فتزكو نفسه بمحبته واتباع سبيل ولايته أنه هو وحده القادر على ذلك، هو الذي يزكِّي القلوب برحمته، والزكاة في اللغة: الطهارة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٩-١٠].
والمراد بقوله: ﴿مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ﴾ [النور: ٢١] أي: ما طهر قلب الإنسان من معصية الله تبارك وتعالى التي اشتملت عليها أوامر الشيطان، وفي هذا دليل على أنه لا نجاة من تلك الوساوس والخطرات إلا برحمة الله تبارك وتعالى، وكأن الله تبارك وتعالى يدعونا بهذه الآية الكريمة إلى التعلق به، وسؤاله النجاة من هذه الوساوس والخطرات، ولذلك صح عن النبي ﷺ أنه كان يكثر من دعاء الله عز وجل صلاحَ قلبه، وزكاةَ فؤاده، حتى قال عليه الصلاة والسلام: (اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) فالله تبارك وتعالى هو وحده الذي يزكي القلوب بفضله؛ فتنشرح لطاعته وسبيل محبته، وتكون أسبق ما تكون إلى ما يحبه ويرضاه، وأبعد ما تكون عن معاصيه التي لا يحبها ولا يرضاها، وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى هذا المعنى بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: ٧] فالله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحبب القلوب في طاعته، ويشرح الصدور لسبيل ولايته، فإذا أراد أن يصطفي أحداً لتلك الهداية أو يجتبيَه لتلك الولاية جعل قلبه منشرحاً زكياً نقياً طاهراً من هذه الوساوس، ولذلك قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الإنسان إذا أراد أن يكون على درجة الصلاح والخير والاستقامة فينبغي أن يكون أبعد ما يكون عن الوساوس، كلما وجد في نفسه الوسوسة دفعها بذكر الله والاستعاذة به تبارك وتعالى، ومن ثم نبهوا على أن أخطر ما يُخشى على الإنسان الاسترسال في الوساوس والخطرات، وهي: التي يُدْلَى بها الإنسان إلى معاصي الله عز وجل، فيبتدئ الشيطان مع الإنسان في سمعه، أو في بصره، أو في لسانه، أو في فرجه، أو في أي شيءٍ من الأمور التي يملكها حتى يسهل له بها السبيل إلى حدود الله فيبتدئ بالسمع أو بالبصر، فيقول له: تمتع بسمعك أو تمتع ببصرك، ولا حرج عليك في النظرة والنظرتين، فيرسل النظرة، فتورث النظرةُ الشهوة، فيسترسل بالنظرة تلو النظرة حتى ينتهي إلى حديث النفس المستحكِم، فإذا استحكم الشيطان بذلك القلب واستأثر بالفؤاد انقلب ذلك القلب والعياذ بالله من طاعة الله إلى معاصي الله عز وجل، فيصبح يفكر كيف السبيل لإصابة تلك الشهوة، وإصابة ذلك الحد من حدود الله عز وجل؟ يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ﴾ [النور: ٢١] الفضل في اللغة: الزيادة.
وقوله: (فَضْلُ اللَّهِ) : أي: تفضل الله تبارك وتعالى عليكم ورحمته؛ لأن النجاة من المعاصي والبعد عما لا يحبه الله عز وجل ويرضاه إنما هو رحمة من الله عز وجل يرحم بها من شاء، قال بعض العلماء: وَصَفَ الله عز وجل الهداية والاستقامة بكونها رحمة، لأن العبد يُرْحَم فيها في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا: فلأن صلاح الأمور بالاستقامة، وأما في الآخرة: فبالنجاة من عذاب الله عز وجل وعقوبته، وذلك إنما يكون بالتزام شرعه والبعد عن حدوده ومحارمه.
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢١] سميعٌ لأقوالكم، عليمٌ بأفعالكم.
وقوله: (سَمِيعٌ) : فعيل بمعنى فاعل أي: سامعٌ سبحانه وتعالى.
وقوله (عِلِيمٌ) : فعيل أيضاً، وصيغة فعيلٍ وهي دالة على المبالغة.