فإن قيل : لم قال :(أنعمت عليهم) ولم يقل (المنعم عليهم) كما قال : المغضوب عليهم ؟ وجوابه من وجوه إحداها : أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم، وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله –سبحانه وتعالى- فيذكر فاعلها منسوبة إليه، ولا يبنى الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبني الفعل معها للمفعول أدباً في الخطاب وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله.
فمنه : هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها، ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال "المغضوب عليهم" وقال في الإحسان :"الذين أنعمت عليهم".
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه :"الذي خلقني فهو يهدين (٧٨) والذي هو يطعمني ويسقين (٧٩) وإذا مرضت فهو يشفين (٨٠) " [الشعراء : ٧٨-٨٠] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى ولما جاء ذكر المرض قال : وإذا مرضت، ولم يقل : أمرضني، وقال فهو يشفين.
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن :"وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا(١٠)" [الجن : ١٠]، فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب، وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول.
ومنه قول الخضر –عليه الصلاة والسلام- في السفينة فأردت أن أعيبها فأضاف العيب إلى نفسه. وقال في الغلامين :"فأراد ربك أن يبلغا أشدهما" [الكهف : ٨٢]
ومنه قوله تعالى :"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" [البقرة : ٢٧٥]، لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل.
ومنه :"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير" [المائدة : ٣]، وقوله :"قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " [الأنعام : ١٥١]، إلى آخرها.