ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله :"حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " [النساء : ٢٣]، إلى آخرها، ثم قال :"وأحل لكم ما وراء ذلكم" [النساء : ٢٤]، وتأمل قوله :"فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" [النساء : ١٦٠]، كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع، وقال في حق المؤمنين "حرمت عليكم الميتة والدم" ؟
ومنها : أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها، وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله :"أنعمت عليهم" من ذكره وإضافته النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله، فضمن هذا اللفظ الأصلين وهما : الشكر والذكر المذكوران في قوله :"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" [البقرة : ١٥٢].
ومنها : أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال :"أنعمت عليهم"، أي : أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة، وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى الصراط، وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم، وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم، فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه، ويرضى عمن رضي عنه، فيغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، وهذه حقيقة العبودية.
واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم فحذف فاعل الغضب، وقال :"المغضوب عليهم"، لما كان المؤمنين نصيب من غضب الله عليه بخلاف الإنعام فإنه لله وحده فتأمل هذه النكت البديعة.