قوله :"غير المغضوب عليهم ولا الضالين" يدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء عليهم السلام ما أقدم على عمل يخالف قول الذين أنعم الله عليهم، ولا على اعتقاد الذين أنعم الله عليهم، لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضل عن الحق، لقوله تعالى :"فماذا بعد الحق إلا الضلال" [يونس : ٣٢] ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا الاهتداء بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله :"أنعمت عليهم" ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عصمة الأنبياء والملائكة عليهم السلام (١). أ هـ
وتأمل كيف قال : المغضوب عليهم ولا الضالين، ولم يقل اليهود والنصارى، مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريداً لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم ولم يكونوا منهم بسبيل، لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال، فلا يثبت لمغضوب عليه ولا لضال، فتبارك من أودع في كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد (٢). أ هـ
لم قدم المغضوب عليهم على الضالين ؟
وأما تقديم المغضوب عليهم على الضالين فلوجوه :
أحدها : أنهم متقدمون عليهم بالزمان.
الثاني : أنهم كانوا الذين يلون النبي -صلى الله عليه وسلم- من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة، والنصارى كانت ديارهم نائية عنه، ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة (البقرة والمائدة وآل عمران).. وغيرها من السور.
الثالث : أن اليهود أغلظ كفراً من النصارى، ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة، فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم، والبعد منها أحق وأهم بالتقديم، وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم.

(١) التفسير الكبير حـ١ ص٢٢٣
(٢) بدائع الفوائد حـ٢ ص٢٥٥، ٢٥٤ بتصريف يسير


الصفحة التالية
Icon