وبالجملة : فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً، وأن المنقول من الظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط، والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة، ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولاً ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.
ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب، فظاهر التفسير يجري كمجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم وما لا بد فيها من استماع كثير لأن القرآن نزل بلغة العرب فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها، إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه.
ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن وظاهره على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له، كما لا نهاية للمتكلم به، فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئاً.
ومن أحاط بظاهر التفسير - وهو معنى الألفاظ في اللغة - لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني، ومثاله قوله تعالى :" وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى " ﴿الأنفال : ١٧ ﴾
فظاهر تفسيره واضح وحقيقة معناه غامضة فإنه إثبات للرمى ونفي له وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمى من وجه ولم يرم من وجه، ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله عز وجل.
وكذلك قال :" قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " ﴿التوبة : ١٤ ﴾