ودلّ الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور ؛ وهو تحصيل مذهب مالكٍ فيما ذكر ابن خُوَيزِ مَنْدَاد، وهو قول الشافعيّ ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه.
وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه ؛ وهو قول داود.
والصحيح الأوّل ؛ لأن الله تعالى قال في سور الحج :﴿وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً﴾ [ الحج : ٢٧ ] وسورة الحج مكية.
وقال تعالى :﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت﴾ الآية.
وهذه السورة نزل عام أحُد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله ﷺ إلى سنة عشر.
أما السُّنّة : فحديثِ ضمام بن ثعلبة السعديّ من بني سعد بن بكر قِدم على النبيّ ﷺ فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصَّلاة والزكاة والصيام والحج.
رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس، وفيها كلها ذكر الحج، وأنه كان مفروضاً، وحديث أنس أحسُنها سياقاً وأتَمُّها.
واختلف في وقت قدومه ؛ فقيل : سنة خمس.
وقيل : سنة سبع.
وقيل : سنة تسع ؛ ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخَنْدَق بعد انصراف الأحْزَاب.
قال ابن عبد البر : ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسِيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوامٍ من حين استطاعته فقد أدّى الحج الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصَّلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه، ولا كمن أفسد حجه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يُقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته : أنت قاضٍ لِما وجب عليك ؛ علِمنا أن وقت الحج مُوسَّع فيه وأنه على التراخي لا على الفور.