والجواب أن الاختلاف بين العصرين من حيث صورة الحياة لا يرجع إلى كليات شؤونها وإنما هو من حيث المصاديق والموارد وبعبارة أخرى يحتاج الإنسان في حياته إلى غذاء يتغذى به ولباس يلبسه ودار يقطن فيه ويسكنه ووسائل تحمله وتحمل أثقاله وتنقلها من مكان إلى مكان ومجتمع يعيش بين أفراده وروابط تناسلية وتجارية وصناعية وعملية وغير ذلك وهذه حاجة كلية غير متغيرة ما دام الإنسان إنسانا ذا هذه الفطرة والبنية وما دام حياته هذه الحياة الإنسانية والإنسان الأولي وإنسان هذا اليوم في ذلك على حد سواء.
وإنما الاختلاف بينهما من حيث مصاديق الوسائل التي يرفع الإنسان بها حوائجه المادية ومن حيث مصاديق الحوائج حسب ما يتنبه لها وبوسائل رفعها.
فقد كان الإنسان الأولي مثلا يتغذى بما يجده من الفواكه والنبات ولحم الصيد على وجه بسيط ساذج وهو اليوم يهيئ منها ببراعته وابتداعه الوفا من ألوان الطعام والشراب ذات خواص تستفيد منها طبيعته وألوان يستلذ منها بصره وطعوم يستطيبها ذوقه وكيفيات يتنعم بها لمسه وأوضاع وأحوال أخرى يصعب إحصاؤها وهذا الاختلاف الفاحش لا يفرق الثاني من الأول من حيث إن الجميع غذاء يتغذى به الإنسان لسد جوعه وإطفاء نائرة شهوته.
وكما أن هذه الاعتقادات الكلية التي كانت عند الإنسان أولا لم تبطل بعد تحوله من عصر إلى عصر بل انطبق الأول على الآخر انطباقا كذلك القوانين الكلية الموضوعة في الإسلام طبق دعوة الفطرة واستدعاء السعادة لا تبطل بظهور وسيله مكان وسيلة ما دام الوفاق مع أصل الفطرة محفوظا من غير تغير وانحراف وأما مع المخالفة فالسنة الإسلامية لا توافقها سواء في ذلك العصر القديم والعصر الحديث.


الصفحة التالية
Icon