اليقين هو مبدأ السعادة
وهكذا لو تأملنا أن تمرة تقبض عليها بيديك الاثنتين، ثم جئت لتتناولها فضرب إنسان على كفك فطارت فالتقطها وأخذها وصلت إلى باب فيك ولكن لم تمضغها ولم تأكلها، ولكن هو ما عند الله، والله لو اجتمع الإنس والجن على أن يحولوا بينك وبينه والله ما استطاعوا ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: ٥١].
وعلى هذا اليقين هو مبدأ السعادة والنجاة في كل شيء، ونجد هذا من أول الحياة الدنيا مع الرسل وأتباعهم، وفي هذه الأمة، ومع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع بعض الأفراد، نجد اليقين هو منطلق الإيمان، وهو مبدأ السعادة في حياة الإنسان.
ثم نجد ما أشرنا إليه من ارتباط اليقين في كتاب الله، نجد مبدئياً بعد فاتحة الكتاب قوله سبحانه: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ [البقرة: ١-٤]، اليقين موجود عند هؤلاء بالآخرة، واليقين بالآخرة هو منطلق فعل كل خير علامَ يتحمل الناس الالتزام بالصلوات الخمس؟ علام يلتزم الناس صوم رمضان جوعاً وعطشاً؟ علام يلتزم الإنسان إخراج جزء من المال بكفه وعرق جبينه ويعطيه إلى غيره؟ علام يتحمل الإنسان السفر الطويل من كل فج عميق، ويأتي في حل وارتحال للحج؟ علام يتحمل الناس مسئولية الجهاد وسفك الدماء؟ كل ذلك لأي شيء؟!! لدافع لذلك الإيمان بالغيب واليقين بما فيه من عند الله سبحانه، ولولا ذلك اليقين ما حصل شيء من ذلك، ولهذا المنافق لعدم يقينه يعمل ما كان ظاهراً أمام الناس، وإذا خلا بينه وبين أصحابه جحد ما كان يظهره بلسانه.
وهكذا جاء الحديث خاصة في المال على ما سيأتي ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ﴾ [الحجرات: ١٥]، وأن الصدقة برهان.
أي: دليل قاطع على صدق من يقول: آمنت بالله، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله.
إذاً: هنا ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ﴾ [الحجرات: ١٥]، (ثم) هنا إنما جاءت للتراخي بعد نقطة مبدأ الإيمان، فقد صدر إيمانهم بيقين في وقتها، ثم ثبتوا على هذا اليقين، ومع استمرارهم ومضي الزمن وطوله.
وننظر في الأمر الجماعي في غزوة الأحزاب، في حفر الخندق لما اعترضت صخرة جماعة سلمان الفارسي أو أبي هريرة، وتكسرت عليها معاولهم، والغريب أن صخرة اعترضتهم طريقهم مع أن مكان الخندق في أرض سهلة، وهو ما بين طرف الحرة الغربية عند المعهد الوطني، عند كلية أمين مدني ومعرض العامر، ويمتد إلى مقابله إلى الحرة الشرقية -وهي كلها أرض سهلة- لكن اعترضت صخرة في طريقهم في الحفر، لتكون آية من عند الله، وتكسرت عليها معاولهم، واشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنا آتي، فلما رآها طلب ماءً وتوضأ، ونثر الماء على الصخرة، ثم أخذ المعول وضرب ثلاث ضربات، فأول ضربة أبرقت وتكسرت، والثانية تفتت، والثالثة صارت كثيباً من الرمل، وفي كل ضربة تبرق برقة ويكبر رسول الله معها.
قالوا: ما هذه البرقة وما هذا التكبير يا رسول الله؟ قال: (أرأيتم؟ قالوا: بلى، قال: إن الله قد أراني صنعاء والشام وبصرى العراق)، أي: إن الله سيفتح للمسلمين هذه الأمصار الثلاثة، في هذه الحالة مع شدة الخوف والجوع والبرد، ظهر النفاق والارتياب، فقال المنافقون: يعدنا قصور بصرى والشام وصنعاء وإن أحدنا ليخاف على نفسه أن يذهب فيقضي حاجته.
هذه مقالة المنافقين.
أما أهل الإيمان فقالوا: ﴿هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: ٢٢]، وما زادتهم تلك الشدة وهذا الواقع إلا إيماناً وتسليماً لله، فهذا هو الإيمان الحقيقي، تلك الشدة ما زعزعت إيمانهم، ولا أضعفت يقينهم، بل زادتهم إيماناً، وكما يقولون: الشدة تورث اليقين، أو تدعم التضامن والتجمع.
لما تكون أقلية إسلامية في بلد، ويحسون بالشدة والضغينة من الأكثرية ينضم بعضهم إلى بعض، ويقوى ارتباطهم ببعض للدفاع عن النفس، وهؤلاء المؤمنون جاءتهم وواجهتهم تلك الشدائد، ولكنهم لم يرتابوا.