بعض مواقف النبي ﷺ في مشاورته لأصحابه وأخذه برأيهم
من هذه المواقف: غزوة بدر: لما خرجوا ووصلوا إلى بدر كان منزل رسول الله ﷺ كما جاء القرآن: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا﴾ [الأنفال: ٤٢]، ووادي بدر ممتد من الشمال إلى الجنوب، ﴿وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ﴾ [الأنفال: ٤٢]، سبحان الله العظيم! فنزل النبي ﷺ بحافة الوادي الدنيا من جهة المدينة، وكان منزل المشركين بالعدوة القصوى التي من جهة مكة، فنزلوا على أول بئر وصلوا إليه، وجاء النبي ونزل عند أول بئر، وفي هذه الحالة جاء الحباب بن المنذر، وقال: (يا رسول الله! أمنزل أنزلكه الله فلا قول لأحد، أم هي الحرب والمكيدة؟ قال: لا.
بل هي الحرب والمكيدة)، لأن قضية بدر من حيث هي كانت كما نقول: بقيادة السماء، وقد بين الله ذلك فقال: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ﴾ [الأنفال: ٥]، فهو خرج باختيار الله والعير التي كان يخرج إليها كل سنة كانت تروح وتغدوا، وخرج إليها حمزة قبل ذلك، وخرج إليها الرسول إلى العشيرة وما أصابها، ولكن في هذه المرة: (إن هذه عير لقريش لعلكم تخرجون، لعل الله ينقلنيها)، إذاً: كانت العير طعم فقط ليخرجوا: ﴿أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا﴾ [الأنفال: ٥]، لما جاءوا في الطريق كانت العير التي خرجوا إليها ذهبت، والنفير الذي لم يحسبوا له حساباً جاء.
إذاً: نزولهم في هذا المكان ونزول أولئك كان بأمر من الله، ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ [الأنفال: ٤٢]، وكذلك: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٧] وكما قال في مجلس المشاورة: (أشيروا عليَّ أيها الناس؛ العير قد نجت والنفير أقبلت)، فمن قائل يقول: كذا وكذا، حتى قالوا: يا رسول الله! لعلك خرجت لأمر وأراد الله أمراً آخر فامض إلى ما أراده الله.
يعني: كانت الإرادة لله وليست لهم، ومن هنا التزم الحباب في سؤاله: أهذا المنزل بوحي من الله فنسكت ولا نجتهد، فقال: لا.
هي الحرب والمكيدة، فقال: الرأي عندي -وكلمة عندي تحرز فقد يكون عند غيره مخالفاً لهذا- أن نذهب ونتقدم إلى آخر بئر فننزل عليها، ونبني لنا حوضاً نملأه ماءً فنكون على ماء ولا ماء للعدو، يريد أن يحاربوهم بالعطش أيضاً، وكان جبريل عليه السلام مع النبي ﷺ أول ما نزل، فإذا ملك ينزل من السماء ويقول: (يا محمد! إن الله يقرؤك السلام، ويقول لك: الرأي ما قال الحباب، فنظر ﷺ إلى جبريل وقال: أتعرف هذا يا جبريل؟ فقال جبريل: ما كل ملائكة السماء يعرفها جبريل) والظاهر أنه ملك وليس شيطاناً، ويهمنا هنا: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ﴾ [الحجرات: ٧]، مفهوم ذلك: طاعتهم في القليل وكان فيها خير.
كذلك عند غزوة الأحزاب، علم ﷺ بتجمع المشركين ومن تحزب معهم، وجاءه الخبر بأسرع ما يكون فشاور أصحابه، فلما تشاورا قام سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله! كنا إذا حوربنا خندقنا.
أي: عملنا خندقاً حول المدينة فيكون هذا حصناً طبيعياً أو مانعاً أو حاجزاً من العدو أن يصل إلينا، فأخذ برأيه صلى الله عليه وسلم، وحفر الخندق ما بين طرفي المدينة ويكون محيطاً بها إحاطة الحذوة كما يقول بعض الكتاب، مستطيلة ليست لها إلا فتحة واحدة، وهي في الوادي حينما ينزل النازل على بئر عثمان وينزل إلى باب الشام، فهذا مدخل المدينة فقط، وما عداها حرار وبساتين لا يمكن للجيوش أن تخترقها، فحفر ﷺ الخندق ما بين الطرفين ليكون متمماً للحصن الطبيعي حول المدينة.
إذاً: أطاعهم في بعض الأمر، وكانت تلك الطاعة إنما هي لمصلحتهم جميعاً، ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ﴾ [الحجرات: ٧]، منعكم من أن تتقدموا بالكثير، وأن تقترحوا عليه الكثير، وأن تقبلوا منه ما جاءكم به ولو على غير رغباتكم ولو على غير ما تريدونه أن يأتي معكم فيه.