تفسير قوله تعالى: (ولكن الله حبب إليكم الإيمان... )
قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: ٧]، أي: الذين جمعوا بين هذين الوصفين المتقابلين.
وهنا يأتي: (حَبَّبَ)، والإنسان قد يحب الشيء ولكنه مكروه لديه، من حيث تحقيق المصلحة يحبه، ولكن من حيث عين الموضوع هو يكرهه.
المريض مثلاً: يوجد الدواء مر حامض فهو يحبه؛ لأن وراءه الشفاء بإذن الله، ووقت أخذ الدواء يبكي، فهو قد يحب هذا الشيء ولكنه يكره ذاته، ولكن هنا جمع الله بين حبب وزين، فهو محبب لنتائجه الحسنة، ومزين عند الإنسان يأخذه برغبة وطواعية ومحبة، وفرق بعيد بين الأمرين، ولهذا كان (زينه) تتمة (لحببه) ليكون الأخذ بهذا المحبب برغبة واختيار لا عن إكراه كالمريض يتعاطى الدواء.
(وَكَرَّهَ)، حبب يقابلها كره، والمكروه الشيء الذي لا يرغب فيه الإنسان، ﴿إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾ [الحجرات: ٧]، الكفر مقابل الإيمان ولوازم الإيمان؛ لأن الإيمان: تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان، فالكفر أول ما ينصب على جحود القلب وهو العقيدة.
﴿وَالْفُسُوقَ﴾ [الحجرات: ٧]، يقولون: إن الفسوق يكون بالقول ويكون بالفعل، ولكنه بالقول أكثر؛ لأن مجيئه بالنبأ جعله فاسقاً.
﴿وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: ٧]، يكون بالأمرين لكنه في الفعل أكثر، وبعضهم يقول: الكفر معروف أنه قمة الإشراك، والفسوق يشمل الكبائر، والعصيان يكون للصغائر، ولكن التحقيق: أن العصيان يشمل الكبيرة والصغيرة.
ويهمنا هنا: أنه لا يتم تحقيق الإيمان وحبه في القلب حتى يخلو القلب من شوائب الكفر؛ لأن الكفر والإيمان لا يجتمعان أبداً، ولذا قال ﷺ في آخر أمره: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ؛ لأن وجود دينين معاً في بلد واحد يقتضي وجود احتكاك بينهما، وأهل هذا الدين يخالطون أهل هذا الدين، وأهل ذاك الدين يخالطون أهل هذا الدين، وتكون بالمخالطة نقل بعض العادات أو نقل بعض الاعتقادات فيكون هناك شيء من التلاقح بين الأفكار والمشاركة بين الأعمال، فيكون في هذا مضرة على دين الإسلام، لذا قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب)، وهكذا لا يجتمع دينان في قلب المسلم.
﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ٧].
يقول الله: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: ٧] وكره إليكم الكفر حتى لا يوجد الضد مع الضد.
هؤلاء الذين اجتمع لهم محبة الإيمان وأخذه بطيب ورضا وقناعة ومحبة كرهوا الكفر والفسوق والعصيان وهذا من كمال الإيمان في قلوبهم، ولا ننس أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: ٧]، والرشد هو الصلاح: أي: هم الذين أخذوا بطريق الرشد، وهو الصلاح في الدين والدنيا، وبعض العلماء كـ الشافعي يقول: الرشد هو الصلاح في الدين، ويذكر ذلك في كتب الفقه عند بلوغ اليتيم، ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ [النساء: ٦] أي: صلاحاً في دينهم، ﴿فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ [النساء: ٦].
ومالك رحمه الله يقول: الرشد في الدنيا بخصوص المال لليتيم، فإذا كان يحسن تصريف ماله وحفظه دفعناه إليه وجانب الدين هذا بينه وبين الله.
والشافعي يقول: لابد من رشد الدين مع رشد الدنيا؛ لأنه إذا كان يحسن التصرف في المال لكنه يصرفه فيما لا فائدة فيه أو فيما هو محرم؛ فيكون سفيهاً ولو كان يتقن ويحسن التصرف في المال.