لعلك تقول لمَ خصصت آية الكرسي بأنها السيدة، والفاتحة بأنها الأفضل ؟ أفيه سر أم هو بحكم الاتفاق كما يسبق اللسان في الثناء على شخص الى لفظ وفي الثناء على مثله الى لفظ آخر ؟ فأقول: هيهات... فان ذلك يليق بي وبك وبمن ينطق عن الهوى لا بمن ينطق عن وحي يوحى فلا تظنن أن كلمة واحدة تصدر عنه في أحواله المختلفة من الغضب والرضا الا بالحق والصدق، والسر في هذا التخصيص أن الجامع بين فنون الفضل وأنواعها الكثيرة يسمى فاضلا فالذي يجمع أنواعا أكثر يسمى أفضل، فان الفضل هو الزيادة، فالأفضل هو الأزيد... وأما السؤدد فهو عبارة عن رسوخ معنى الشرف الذي يقتضي الاستتباع ويأبى التبعية، واذا راجعت المعاني التي ذكرناها في السورتين علمت أن الفاتحة تتضمن التنبيه على معان كثيرة ومعان مختلفة فكانت أفضل وآية الكرسي تشتمل على المعرفة العظمى التي هي المتبوعة والمقصودة التي يتبعها سائر المعارف فكان اسم السيدة بها أليق، فتنبه لهذا النمط من التصرف في قوارع القرآن وما يتلوه عليك ليغزر علمك وينفتح فكرك فترى العجائب والآيات وتنشرح في جنة المعارف وهي الجنة التي لا نهاية لأطرافها اذ معرفة جلال الله وأفعاله لا نهاية لها فالجنة التي تعرفها خلقت من أجسام فهي وان اتسعَت أكنافها فمتناهية اذ ليس في الامكان خلق جسم بلا نهاية فانه محال وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البله وان كنت من أهل الجنة قال أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب...
الفصل الثامن عشر : في حال العارفين ونسبة لذتهم الى لذة الغافلين


الصفحة التالية
Icon