واعلم أنه لو خُلق فيك شوقٌ الى لقاء الله وشهوة ٌالى معرفة جلاله أصدق وأقوى من شهوتك للأكل والنكاح لكنت تؤثر جنة المعارف ورياضها وبساتينها على الجنة التي فيها قضاء الشهوات المحسوسة... واعلم أن هذه الشهوة خُلقت للعارفين ولم تُخلق لك كما خُلقت لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان وانما للصبيان شهوة اللعب فقط.. فأنت تتعجب من الصبيان في عكوفهم على لذة اللعب وخلوهم عن لذة الرئاسة، والعارف يتعجب منك في عكوفك على لذة الجاه والرئاسة فان الدنيا بحذافيرها عند العارف لهو ولعب... ولما خُلقت هذه الشهوة للعارفين كان التذاذهم بالمعرفة بقدر شهوتهم ولا نسبة لتلك اللذة الى لذة الشهوات الحسية، فانها لذة لا يعتريها الزوال ولا يغيرها الملال بل لا تزال تتضاعف وتترادف وتزداد بزيادة المعرفة والأشواق فيها بخلاف سائر الشهوات إلا أن هذه الشهوة لا تُخلق في الانسان الا بعد البلوغ، أعني البلوغ الى حد الرجال ومن لم تُخلق فيه فهو إما صبي لم تكمل فطرته لقبول هذه الشهوات أو عنين أفسدت كدورات الدنيا وشهواتها فطرته الأصلية.. فالعارفون لما رُزقوا شهوةَ المعرفة ولذةَ النظر الى جلال الله فهم في مطالعتهم جمال الحضرة الربوبية في جنة عرضها السموات والأرض بل أكثر وهي جنة عالية قطوفها دانية فان فواكهها صفة ذاتهم وليست مقطوعة ولا ممنوعة اذ لا مضايقة للمعارف...
الفصل التاسع عشر : في تقسيم لباب القرآن الى نمط الجواهر ونمط الدرر


الصفحة التالية
Icon