مِنَ الْعِلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْتُ، وَإِنْ كَانَ لِنَصْبِهَا مَخْرَجٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ. وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ﴾ [البقرة: ٧] وَالْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ " فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ مَخْرَجِ النَّصْبِ فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ نَصَبَهَا بِإِضْمَارِ جَعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً؛ ثُمَّ أَسْقَطَ جَعَلَ؛ إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ نَصَبُهَا عَلَى اتِّبَاعِهَا مَوْضِعَ السَّمْعِ إِذْ كَانَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا إِعَادَةُ الْعَامِلِ فِيهِ عَلَى غِشَاوَةٍ وَلَكِنْ عَلَى إِتْبَاعِ الْكَلَامِ بَعْضَهُ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ﴾ [الواقعة: ١٨] ثُمَّ قَالَ: ﴿وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٍ عِينٍ﴾ [الواقعة: ٢٠] فَخَفَضَ اللَّحْمَ وَالْحُورَ عَلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْفَاكِهَةِ إِتْبَاعًا لِآخِرِ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّحْمَ لَا يُطَافُ بِهِ وَلَا بِالْحُورِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ فَرَسَهُ -[٢٧١]-:
[البحر الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا | حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا |
[البحر الكامل]
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا |