ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ [الأعراف: ٢٦] :«يَتَّقِي اللَّهُ فَيُوَارِي عَوْرَتَهُ، ذَلِكَ لِبَاسُ التَّقْوَى» وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَكِّيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: ٢٦] بِرَفْعِ (وَلِبَاسُ). وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: (وَلِبَاسَ التَّقْوَى) بِنَصْبِ اللِّبَاسِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ بَعْضِ قُرَّاءِ الْكُوفِيِّينَ. فَمَنْ نَصَبَ: (وَلِبَاسَ) فَإِنَّهُ نَصَبَهُ عَطْفًا عَلَى (الرِّيشِ) بِمَعْنَى: قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا، وَأَنْزَلْنَا لِبَاسَ التَّقْوَى. وَأَمَّا الرَّفْعُ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي ارْتَفَعَ بِهِ اللِّبَاسُ، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: ٢٦]، وَقَدِ اسْتَخْطَأَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعُدْ عَلَى اللِّبَاسِ فِي الْجُمْلَةِ عَائِدٌ، فَيَكُونُ اللِّبَاسُ إِذًا رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَجُعِلَ (ذَلِكَ خَيْرٌ) خَبَرًا. -[١٢٩]- وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: ﴿وَلِبَاسُ﴾ [الأعراف: ٢٦] يُرْفَعُ بِقَوْلِهِ: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ)، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ نَعْتِهِ. بِـ (خَيْرٌ) لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ إِلَّا أَنْ يُجْعَلَ اللِّبَاسُ نَعْتًا، لَا أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى اللِّبَاسِ مِنْ ذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ [الأعراف: ٢٦]، فَيَكُونُ (خَيْرٌ) مَرْفُوعًا بِذَلِكَ وَذَلِكَ بِهِ. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذَنْ: رَفَعَ لِبَاسَ التَّقْوَى، وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ الَّذِي قَدْ عَلِمْتُمُوهُ خَيْرٌ لَكُمْ يَا بَنِي آدَمَ مِنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الَّتِي تُوَارِي سَوْآتِكُمْ، وَمِنَ الرِّيَاشِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا إِلَيْكُمْ فَالْبَسُوهُ. وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَنْ قَرَأَهُ نَصْبًا، فَإِنَّهُ: يَا بَنِي آدَمَ، قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ، وَرِيشًا، وَلِبَاسُ التَّقْوَى هَذَا الَّذِي أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ، مِنَ اللِّبَاسِ الَّذِي يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَالرِّيشِ، وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ التَّعَرِّي وَالتَّجَرُّدِ مِنَ الثِّيَابِ فِي طَوَافِكُمْ بِالْبَيْتِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَالْبَسُوا مَا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مِنَ الرِّيَاشِ، وَلَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ بِالتَّجَرُّدِ وَالتَّعَرِّي مِنَ الثِّيَابِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُخْرِيَةٌ مِنْهُ بِكُمْ وَخُدْعَةٌ، كَمَا فَعَلَ بِأَبَوَيْكُمْ آدَمَ وَحَوَّاءَ فَخَدَعَهُمَا حَتَّى جَرَّدَهُمَا مِنْ لِبَاسِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ أَلْبَسَهُمَا بِطَاعَتِهِمَا لَهُ فِي أَكْلِ مَا كَانَ اللَّهُ نَهَاهُمَا عَنْ أَكْلِهِ مِنْ ثَمَرِ الشَّجَرَةِ الَّتِي عَصَيَاهُ بِأَكْلِهَا. -[١٣٠]- وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ، أَعْنِي نَصْبَ قَوْلِهِ: (وَلِبَاسَ التَّقْوَى) لِصِحَّةِ مَعْنَاهُ فِي التَّأْوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنْتُ، وَأَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ إِنْزَالِهِ اللِّبَاسَ الَّذِي يُوَارِي سَوْآتِنَا وَالرِّيَاشِ تَوْبِيخًا لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَجَرَّدُونَ فِي حَالِ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِأَخْذِ ثِيَابِهِمْ وَالِاسْتِتَارِ بِهَا فِي كُلِّ حَالٍ مَعَ الْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِ طَاعَتِهِ، وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَتَعَرِّيهِمْ، لَا أَنَّهُ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ بَعْضَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ مِنْ بَعْضٍ. وَمَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾، وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٦٩]، فَإِنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَأْمُرُ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِأَخْذِ الزِّينَةِ مِنَ الثِّيَابِ وَاسْتِعْمَالِ اللِّبَاسِ وَتَرْكِ التَّجَرُّدِ وَالتَّعَرِّي، وَبِالْإِيمَانِ بِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، وَيَنْهَى عَنِ الشِّرْكِ بِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرَ الشَّيْطَانِ، مُؤَكِّدًا فِي كُلِّ ذَلِكَ مَا قَدْ أَجْمَلَهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصِّحَّةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: (وَلِبَاسَ التَّقْوَى) اسْتِشْعَارُ النُّفُوسِ تَقْوَى اللَّهِ فِي الِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَذَلِكَ يَجْمَعُ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ وَالْحَيَاءَ وَخَشْيَةَ اللَّهِ وَالسَّمْتَ -[١٣١]- الْحَسَنَ، لِأَنَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ كَانَ بِهِ مُؤْمِنًا وَبِمَا أَمَرَهُ بِهِ عَامِلًا وَمِنْهُ خَائِفًا وَلَهُ مُرَاقِبًا، وَمِنْ أَنْ يُرَى عِنْدَ مَا يَكْرَهُهُ مِنْ عِبَادِهِ مُسْتَحْيِيًا. وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ ظَهَرَتْ آثَارُ الْخَيْرِ فِيهِ، فَحَسُنَ سَمْتُهُ وَهَدْيُهُ، وَرَؤُيَتْ عَلَيْهِ بَهْجَةُ الْإِيمَانِ وَنُورُهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: عُنِيَ بِلِبَاسِ التَّقْوَى اسْتِشْعَارُ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ ذَلِكَ، لِأَنَّ اللِّبَاسَ إِنَّمَا هُوَ ادِّرَاعُ مَا يُلْبَسُ وَاحْتِبَاءُ مَا يُكْتَسَى، أَوْ تَغْطِيَةُ بَدَنِهِ أَوْ بَعْضَهُ بِهِ، فَكُلُّ مَنِ ادَّرَعَ شَيْئًا أَوِ احْتَبَى بِهِ حَتَّى يُرَى هُوَ أَوْ أَثَرُهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ لَهُ لَابِسٌ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الرِّجَالَ لِلنِّسَاءِ لِبَاسًا، وَهُنَّ لَهُمْ لِبَاسًا، وَجَعَلَ اللَّيْلَ لِعِبَادِهِ لِبَاسًا. ذِكْرُ مَنْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِهِ إِذَا قُرِئَ قَوْلُهُ: ﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى﴾ [الأعراف: ٢٦] رَفْعًا