حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: " كَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ وَجَمَاعَتُهُمْ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ هُودًا الْأَحْقَافَ، قَالَ: وَالْأَحْقَافُ: الرَّمْلُ فِيمَا بَيْنَ عُمَانَ إِلَى حَضْرَمَوْتٍ بِالْيَمَنِ، وَكَانُوا مَعَ ذَلِكَ قَدْ فَشَوْا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا، وَقَهَرُوا أَهْلَهَا بِفَضْلِ قُوَّتِهِمُ الَّتِي آتَاهُمُ اللَّهُ، وَكَانُوا أَصْحَابَ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ: صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: صُدَاءٌ، وَصَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: صُمُودٌ، وَصَنَمٌ يُقَالُ لَهُ: الْهَبَاءُ. فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ هُودًا، وَهُوَ مِنْ أَوْسَطِهِمْ نَسَبًا وَأَفْضَلِهِمْ مَوْضِعًا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ وَلَا يَجْعَلُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ، وَأَنْ يَكُفُّوا عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ فِيمَا يُذْكَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَذَّبُوهُ، وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ وَاتَّبَعَهُ مِنْهُمْ نَاسٌ وَهُمْ يَسِيرٌ، يَكْتُمُونَ إِيمَانَهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ رَجُلٌ مِنْ عَادٍ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَكَانَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ، فَلَمَّا عَتَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ، وَأَكْثَرُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ، وَتَجَبَّرُوا وَبَنَوْا بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً عَبَثًا بِغَيْرِ نَفْعٍ، كَلَّمَهُمْ هُودٌ فَقَالَ: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٩]، ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتَنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ [هود: ٥٣] :-[٢٧٠]- أَيْ مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ إِلَّا جُنُونٌ أَصَابَكَ بِهِ بَعْضُ آلِهَتِنَا هَذِهِ الَّتِي تَعِيبُ، ﴿قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونَ﴾ [هود: ٥٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَ، حَتَّى جَهَدَهُمْ ذَلِكَ. وَكَانَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ بَلَاءٌ أَوْ جَهْدٌ، فَطَلَبُوا إِلَى اللَّهِ الْفَرَجَ مِنْهُ، كَانَتْ طِلْبَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ عِنْدَ بَيْتِهِ الْحَرَامِ بِمَكَّةَ، مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ، فَيَجْتَمِعُ بِمَكَّةَ نَاسٌ كَثِيرٌ شَتَّى مُخْتَلِفَةٌ أَدْيَانُهُمْ، وَكُلُّهُمْ مُعَظِّمٌ لِمَكَّةَ يَعْرِفُ حُرْمَتَهَا وَمَكَانَهَا مِنَ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ الْبَيْتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَعْرُوفًا مَكَانُهُ، وَالْحَرَمُ قَائِمًا فِيمَا يَذْكُرُونَ، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ، وَإِنَّمَا سُمُّوا الْعَمَالِيقَ لِأَنَّ أَبَاهُمْ عِمْلِيقُ بْنُ لَاوِذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَكَانَ سَيِّدُ الْعَمَالِيقِ إِذْ ذَاكَ بِمَكَّةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَلَكِنَّهُ كَانَ قَدْ كَبِرَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَرْأَسُ قَوْمَهُ، وَكَانَ السُّؤْدَدُ وَالشَّرَفُ مِنَ الْعَمَالِيقِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فِي أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ، وَكَانَتْ أُمُّ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ كَلْهَدَةَ ابْنَةُ الْخَيْبَرِيِّ رَجُلٍ مِنْ عَادٍ. فَلَمَّا قَحَطَ الْمَطَرُ عَنْ عَادٍ وَجَهِدُوا، قَالُوا: جَهِّزُوا مِنْكُمْ وَفْدًا إِلَى مَكَّةَ، فَلْيَسْتَسْقُوا لَكُمْ، فَإِنَّكُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ، فَبَعَثُوا قَيْلَ بْنَ عِيرٍ، وَلَقِيمَ بْنَ هَزَّالٍ مِنْ هُذَيْلٍ، وَعُقَيْلَ بْنَ ضِدِّ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرِ، وَمَرْثَدَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُفَيْرٍ، وَكَانَ مُسْلِمًا يَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَجَلْهَمَةَ بْنَ الْخَيْبَرِيِّ -[٢٧١]- خَالَ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ أَخُو أُمِّهِ، ثُمَّ بَعَثُوا لُقْمَانَ بْنَ عَادِ بْنِ فُلَانِ بْنِ فُلَانِ بْنِ ضِدِّ بْنِ عَادٍ الْأَكْبَرِ. فَانْطَلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَعَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ حَتَّى بَلَغَ عِدَّةُ وَفْدِهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا. فَلَمَّا قَدِمُوا مَكَّةَ، نَزَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ وَهُوَ بِظَاهِرِ مَكَّةَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، وَكَانُوا أَخْوَالَهُ وَأَصْهَارَهُ. فَلَمَّا نَزَلَ وَفْدُ عَادٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، أَقَامُوا عِنْدَهُ شَهْرًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَتُغَنِّيهُمُ الْجَرَادَتَانِ، قَيْنَتَانِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ، وَكَانَ مَسِيرُهُمْ شَهْرًا وَمُقَامُهُمْ شَهْرًا. فَلَمَّا رَأَى مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ طُولَ مُقَامِهِمْ وَقَدْ بَعَثَهُمْ قَوْمُهُمْ يَتَغَوَّثُونَ بِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَلَكَ أَخْوَالِي وَأَصْهَارِي، وَهَؤُلَاءِ مُقِيمُونَ عِنْدِي وَهُمْ ضَيْفِي نَازِلُونَ عَلَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِمْ، إِنْ أَمَرْتُهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَى مَا بُعِثُوا لَهُ فَيَظُنُّوا أَنَّهُ ضِيقٌ مِنِّي بِمُقَامِهِمْ عِنْدِي، وَقَدْ هَلَكَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ جَهْدًا وَعَطَشًا. أَوْ كَمَا قَالَ. فَشَكَا ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ إِلَى قَيْنَتَيْهِ الْجَرَادَتَيْنِ، فَقَالَتَا: قُلْ شِعْرًا نُغَنِّيهِمْ بِهِ لَا يَدْرُونَ مَنْ قَالَهُ، لَعَلَّ ذَلِكَ أَنَّ يُحَرِّكَهُمْ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ بَكْرٍ حِينَ أَشَارَتَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ:
[البحر الوافر]
أَلَا يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ | لَعَلَّ اللَّهَ يُسْقِينَا غَمَامَا |
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إِنَّ عَادًا | قَدَ امْسَوْا لَا يُبِينُونَ الْكَلَامَا |
مِنَ الْعَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو | بِهِ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَلَا الْغُلَامَا |
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْرٍ | فَقَدْ أَمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ عَيَامَى |
-[٢٧٢]- وَإِنَّ الْوَحْشَ يَأْتِيهِمْ جِهَارًا | وَلَا يَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهَامَا |
وَأَنْتُمْ هَا هُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُمْ | نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا |
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمٍ | وَلَا لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلَامَا |
[البحر الوافر]
أَبَا سَعْدٍ فَإِنَّكَ مِنْ قَبِيلٍ | ذَوِي كَرَمٍ وَأُمُّكَ مِنْ ثَمُودِ |
فَإِنَّا لَا نُطِيعُكَ مَا بَقِينَا | وَلَسْنَا فَاعِلِينَ لِمَا تُرِيدُ |
أَتَأْمُرُنَا لِنَتْرُكَ دِينَ رِفْدٍ | وَرَمْلٍ وَالصُّدَاءَ مَعَ الصُّمُودِ |
وَنَتْرُكَ دِينَ آبَاءٍ كِرَامٍ | ذَوِي رَأْي وَنَتْبَعَ دِينَ هُودِ |