ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: " قَالَ فِي الْأَنْفَالِ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] فَنَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي تَلِيهَا: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٣٤] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦] فَقُوتِلُوا بِمَكَّةَ، وَأَصَابَهُمْ فِيهَا الْجُوعُ وَالْحَصْرُ " وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: تَأْوِيلُهُ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ وَبَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مُقِيمٌ، حَتَّى أُخْرِجَكَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ؛ لِأَنِّي لَا أُهْلِكُ قَرْيَةً وَفِيهَا نَبِيُّهَا. وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُمْ مُصِرُّونَ عَلَيْهِ، فَهُمْ لِلْعَذَابِ مُسْتَحِقُّونَ، كَمَا يُقَالُ: مَا كُنْتُ لِأُحْسِنَ إِلَيْكَ وَأَنْتَ تُسِيءُ إِلَيَّ، يُرَادُ بِذَلِكَ: لَا أُحْسِنُ إِلَيْكَ إِذَا أَسَأْتَ إِلَيَّ وَلَوْ أَسَأْتَ إِلَيَّ لَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ، وَلَكِنْ أُحْسِنُ إِلَيْكَ لِأَنَّكَ لَا تُسِيءُ إِلَيَّ، وَكَذَلِكَ ذَلِكَ. ثُمَّ قِيلَ: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الأنفال: ٣٤] بِمَعْنَى: وَمَا شَأْنُهُمْ وَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ لَا يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ مِنْ كُفْرِهِمْ فَيُؤْمِنُوا بِهِ، وَهُمْ يَصُدُّونَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ أَعني -[١٥٨]- مُشْرِكِي مَكَّةَ كَانُوا اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ هُوَ الْحَقَّ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ: مَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كُنْتُ لِأُعَذِّبَهُمْ لَوِ اسْتَغْفَرُوا، وَكَيْفَ لَا أُعَذِّبُهُمْ بَعْدَ إِخْرَاجِكَ مِنْهُمْ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَأَعْلَمَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَعْجَلُوا الْعَذَابَ حَائِقٌ بِهِمْ وَنَازِلٌ، وَأَعْلَمَهُمْ حَالَ نُزُولِهِ بِهِمْ، وَذَلِكَ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ إِيَّاهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ. وَلَا وَجْهَ لِإِيعَادِهِمُ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ مُسْتَعْجِلُوهُ فِي الْعَاجِلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْعَذَابِ صَائِرُونَ، بَلْ فِي تَعْجِيلِ اللَّهِ لَهُمْ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ مَا قُلْنَا. وَكَذَلِكَ لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ وَجَّهَ قَوْلَهُ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] إِلَى أَنَّهُ عَنَى بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ وَعَمَّا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ عَنْهُمْ قَدْ تَقَضَّى، وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ بِهِ عَنَوْا، وَلَا خِلَافَ فِي تَأْوِيلِهِ مِنْ أَهْلِهِ مَوْجُودٌ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الأنفال: ٣٤] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٣] خَبَرٌ، وَالْخَبَرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَسْخٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ النَّسْخُ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ دُخُولِ «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ -[١٥٩]- اللَّهُ﴾ [الأنفال: ٣٤] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: هِيَ زَائِدَةٌ هَاهُنَا، وَقَدْ عَمِلَتْ كَمَا عَمِلَتْ لَا وَهِيَ زَائِدَةٌ، وَجَاءَ فِي الشِّعْرِ:
[البحر البسيط]
لَوْ لَمْ تَكُنْ غَطَفَانٌ لَا ذُنُوبَ لَهَا | إِلَيَّ لَامَ ذَوُو أَحْسَابِها عُمَرَا |