حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " ﴿ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] يَقُولُ: بَنِي إِسْرَائِيلَ «فَهَذَا الْخَبَرُ يُنْبِئُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّ الذُّرِّيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الذُّرِّيَّةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أُرِيدَ بِهَا ذُرِّيَّةُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَهَلَكُوا قَبْلَ أَنْ يُقِرُّوا بِنُبُوَّتِهِ لِطُولِ الزَّمَانِ، فَأُدْرَكَتْ ذُرِّيَّتُهُمْ فَآمَنَ مِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ بِمُوسَى وَإِنَّمَا قُلْتُ هَذَا الْقَوْلَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرٌ لِغَيْرِ مُوسَى، فَلَأَنْ تَكُونَ الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ» ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾ [الأعراف: ٦٠] " مِنْ ذِكْرِ مُوسَى لِقُرْبِهِمْ مِنْ ذِكْرِهِ، أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ لِبُعْدِ ذِكْرِهِ مِنْهَا، إِذْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ ذَلِكَ دَلِيلٌ مِنْ خَبَرٍ وَلَا نَظَرٍ. وَبَعْدُ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾ [يونس: ٨٣] الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى أَنَّ الْهَاءَ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] مِنْ ذِكْرِ مُوسَى لَا مِنْ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ؛ لِأَنَّهَا لَوُ كَانَتْ مِنْ ذِكْرِ فِرْعَوْنَ لَكَانَ الْكَلَامُ: «عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ»، وَلَمْ يَكُنْ ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ -[٢٤٨]-﴾ [يونس: ٨٣] وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ﴾ [يونس: ٨٣] فَإِنَّهُ يَعْنِي عَلَى حَالِ خَوْفٍ مِمَّنْ آمَنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ مُوسَى بِمُوسَى فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُمْ خَائِفُونَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنُوهُمْ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ إِنَّمَا كَانَتْ أُمَّهَاتُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَآبَاؤُهُمْ مِنَ الْقِبْطِ، فَقِيلَ لَهُمُ الذُّرِّيَّةُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، كَمَا قِيلَ لِأَبْنَاءِ الْفُرْسِ الَّذِينَ أُمَّهَاتُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَآبَاؤُهُمْ مِنَ الْعَجَمِ: أَبْنَاءٌ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَعْنَى الذُّرِّيَّةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: أَنَّهَا أَعْقَابُ مَنْ نُسِبَتْ إِلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ [الإسراء: ٣] وَكَمَا قَالَ: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ﴾ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: ﴿وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ﴾ [الأنعام: ٨٥] فَجَعَلَ مَنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿وَمَلَئِهِمْ﴾ [يونس: ٨٣] فَإِنَّ الْمَلَأَ: الْأَشْرَافَ. وَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمِنْ أَشْرَافِهِمْ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِيمَنْ عَنَى بِالْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَلَئِهِمْ﴾ [يونس: ٨٣] فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: عَنَى بِهَا الذُّرِّيَّةَ. وَكَأَنَّهُ وَجَّهَ الْكَلَامَ إِلَى: فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمَلَأِ الذُّرِّيَّةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. -[٢٤٩]- وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ: عَنَى بِهِمَا فِرْعَوْنَ، قَالَ: وَإِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ وَفِرْعَوْنُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا ذُكِرَ لِخَوفٍ أَوْ سَفَرٍ وَقُدُومٍ مِنْ سَفَرٍ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ مَعَهُ. وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: قَدِمَ الْخَلِيفَةُ فَكَثُرَ النَّاسُ، تُرِيدُ بِمَنْ مَعَهُ، وَقَدِمَ فَغَلَتِ الْأَسْعَارُ؟ لَأَنَّا نَنْوِي بِقُدُومِهِ قَدُومَ مَنْ مَعَهُ. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ يُرِيدُ أَنَّ بِفِرْعَونَ آلَ فِرْعَوْنَ، وَيَحْذِفُ آلَ فِرْعَوْنَ فَيَجُوزُ، كَمَا قَالَ: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَمِثْلُهُ قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١] وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْهَاءُ وَالْمُيمُ عَائِدَتَانِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ. وَوَجَّهَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِلَى أَنَّهُ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمَلَأِ الذُّرِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذُرِّيَّةِ الْقَرْنِ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مَنْ كَانَ أَبُوهُ قِبْطِيًّا وَأُمُّهُ إِسْرَائِيلِيَّةَ، فَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ مِنْهُمْ كَانَ مَعَ فِرْعَوْنَ عَلَى مُوسَى. وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: ٨٣] يَقُولُ: كَانَ إِيمَانُ مَنْ آمَنَ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمِ مُوسَى عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَيَصُدَّهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَيَحْمِلُهِمْ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ إِيمَانِهِمْ، وَالْكُفْرِ بِاللَّهِ. -[٢٥٠]- وَقَالَ: ﴿أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس: ٨٣] فَوَحَّدَ وَلَمْ يَقُلْ: «أَنْ يَفْتِنُوهُمْ»، لِدَلِيلِ الْخَبَرِ عَنْ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾ [يونس: ٨٣] وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: ٨٣] يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَجَبَّارٌ مُسْتَكْبِرٌ عَلَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ. ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: ٨٣] وَإِنَّهُ لِمَنْ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَقَّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَذَلِكَ كُفْرُهُ بِاللَّهِ، وَتَرْكُهُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَجُحُودُهُ وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ، وَادِّعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ الْأُلُوهَةَ، وَسَفْكُهُ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حِلِّهَا