حَدَّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ بْنِ صَالِحٍ السَّهْمِيُّ، قَالَ: ثَنَا أَبِي قَالَ، ثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَ: ثَنِي الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُلَيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ: «-[٤٥]- إِنَّهُ أَوَّاهٌ» وَذَلِكَ أَنَّهُ رَجُلٌ كَانَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَالدُّعَاءِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ " وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْمُتَوَجِّعِ مِنْ أَلَمٍ أَوْ مَرَضٍ: لِمَ تَتَأَوَّهُ؟ كَمَا قَالَ الْمُثَقَّبُ الْعَبْدِيُّ:
[البحر الوافر]

إِذَا مَا قُمْتُ أَرْحَلُهَا بِلَيْلٍ تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الْحَزِينِ،
وَمِنْهُ قَوْلُ الْجَعْدِيِّ:
[البحر الطويل]
ضَرُوحٌ مَرُوحٌ تَتْبَعُ الْوُرْقَ بَعْدَمَا يُعَرِّسْنَ تَشْكُو آهَةً وَتَذَمُّرَا
. وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تَنْطِقُ مِنْهُ بِفِعْلِ يَفْعَلُ، وَإِنَّمَا تَقُولُ فِيهِ: تَفَعَّلَ يَتَفَعَّلُ، مِثْلُ تَأَوَّهُ يَتَأَوَّهُ، وَأَوَّهُ يُؤَوِّهُ، كَمَا قَالَ الرَّاجِزُ:
[البحر الرجز]
فَأَوَّهَ الرَّاعِي وَضَوْضَى أَكْلُبُهْ
وَقَالُوا أَيْضًا: أَوَّهْ مِنْكَ ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ أَبَا الْجَرَّاحِ أَنْشَدَهُ:
[البحر الطويل]
فَأَوَّهْ مِنَ الذِّكْرَى إِذَا مَا ذَكَرْتُهَا وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ
-[٤٦]- قَالَ: وَرُبَّمَا أَنْشَدَنَا «فَأَوَّ مِنَ الذِّكْرَى» بِغَيْرِ هَاءٍ. وَلَوْ جَاءَ فَعَلَ مِنْهُ عَلَى الْأَصْلِ لَكَانَ آهَ يَئُوهُ أَوَّهَا. وَلِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: تَوَجُّعٌ وَتَحَزُّنٌ وَتَضَرُّعٌ، اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ الِاخْتِلَافَ الَّذِي ذَكَرْتُ، فَقَالَ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ الرَّحْمَةُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى وَجْهِ الرِّقَةِ عَلَى أَبِيهِ وَالرَّحْمَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ لِصِحَّةِ يَقِينِهِ وَحُسْنِ مَعْرِفَتِهِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَتَوَاضُعِهِ لَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ لِصِحَّةِ إِيمَانِهِ بِرَبِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ تَنْزِيلَ اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عِنْدَ ذِكْرِ رَبِّهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى مَا قُلْتُ، وَتَقَارَبَ مَعْنَى بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الْحَزِينَ الْمُتَضَرِّعَ إِلَى رَبِّهِ الْخَاشِعَ لَهُ بِقَلْبِهِ، يَنُوبُهُ ذَلِكَ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِ رَبَّهُ وَدُعَائِهِ إِيَّاهُ فِي حَاجَاتِهِ، وَتَعْتَوِرُهُ هَذِهِ الْخِلَالُ الَّتِي وَجَّهَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَيْهَا تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٤]


الصفحة التالية
Icon