حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: ثنا الْحُسَيْنُ، قَالَ: ثني حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: ﴿أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً﴾ [الشعراء: ٤] قَالَ: «لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَرَاهُمْ أَمْرًا مِنْ أَمْرِهِ لَا يَعْمَلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَعْدَهُ بِمَعْصِيَةٍ»
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثني أَبِي، قَالَ: ثني عَمِّي، قَالَ: ثني أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلَهُ: " ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] قَالَ: مُلْقِينَ أَعْنَاقَهُمْ "
حَدَّثَنَا يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤] قَالَ: الْخَاضِعُ: الذَّلِيلُ ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَظَلَّتْ سَادَتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ لِلْآيَةِ خَاضِعِينَ، وَيَقُولُ: الْأَعْنَاقُ: هُمُ الْكُبَرَاءُ مِنَ النَّاسِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ تَذْكِيرِ خَاضِعِينَ، وَهُوَ خَبَرٌ عَنِ الْأَعْنَاقِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ: يَزْعُمُونَ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿أَعْنَاقُهُمْ﴾ [الرعد: ٥] عَلَى الْجَمَاعَاتِ، نَحْوُ: هَذَا عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ كَثِيرٌ، أَوْ ذُكَّرَ كَمَا يُذَكَّرُ بَعْضُ الْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
تَمَزَّزْتُهَا وَالدِّيكُ يَدْعُو صَبَاحَهُ | إِذَا مَا بَنُو نَعْشٍ دَنَوْا فَتَصَوَّبُوا |
-[٥٤٦]- فَجَمَاعَاتُ هَذَا أَعْنَاقٌ، أَوْ يَكُونَ ذَكَّرَهُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُذَكِّرِ كَمَا يُؤَنَّثُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ، كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
[البحر الطويل]
وَنَشْرَقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ | كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ |
وَقَالَ الْعَجَّاجُ:
[البحر الرجز]
لَمَّا رَأَى مَتْنَ السَّمَاءِ أَبْعَدَتْ
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
[البحر الطويل]
إِذَا الْقُنْبُضَاتُ السُّودُ طَوَّفْنَ بِالضُّحَى | رَقَدْنَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَالُ الْمُسَجَّفُ |
وَقَالَ الْأَعْشَى:وَإِنَّ امْرَأً أَهْدَى إِلَيْكِ وَدُونَهُ | مِنَ الْأَرْضِ يَهْمَاءٌ وَبَيْدَاءُ خَيْفَقُ |
لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ | وَأَنْ تَعْلَمِي أَنَّ الْمُعَانَ الْمُوَفَّقُ |
قَالَ: وَيَقُولُونَ: بَنَاتُ نَعْشٍ وَبَنُو نَعْشٍ، وَيُقَالُ: بَنَاتُ عِرْسٍ، وَبَنُو عِرْسٍ؛ وَقَالَتِ امْرَأَةٌ: أَنَا امْرُؤٌ لَا أُخْبِرُ السِّرَّ، قَالَ: وَذُكِرَ لِرَؤْبَةَ رَجُلٌ فَقَالَ: هُوَ كَانَ أَحَدُ -[٥٤٧]- بَنَاتِ مَسَاجِدِ اللَّهِ، يَعْنِي الْحَصَى. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يَقُولُ: هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]
تَرَى أَرْمَاحَهُمْ مُتَقَلِّدِيهَا | إِذَا صَدِئَ الْحَدِيدُ عَلَى الْكُمَاةِ |
فَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ خَاضِعِيهَا هُمْ، كَمَا يُقَالُ: يَدُكَ بَاسِطُهَا، بِمَعْنَى: يَدُكَ بَاسِطُهَا أَنْتَ، فَاكْتَفَى بِمَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ الِاسْمِ أَنْ يَكُونَ، فَصَارَ الْفِعْلُ كَأَنَّهُ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ لِلثَّانِي، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَمَحْقُوقَةٌ أَنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ إِنَّمَا هُوَ لَمَحْقُوقَةٌ أَنْتِ، وَالْمَحْقُوقَةُ: النَّاقَةُ، إِلَّا أَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْمَرْءِ لِمَا عَادَ بِالذِّكْرِ. وَكَانَ آخَرُ مِنْهُمْ يَقُولُ: الْأَعْنَاقُ: الطَّوَائِفُ، كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ النَّاسَ إِلَى فُلَانٍ عُنُقًا وَاحِدَةً، فَيُجْعَلُ الْأَعْنَاقُ الطَّوَائِفَ وَالْعَصَبَ؛ وَيَقُولُ: يَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْأَعْنَاقُ هُمُ السَّادَّةُ وَالرِّجَالُ الْكُبَرَاءُ، فَيَكُونَ كَأَنَّهُ قِيلَ. فَظَلَّتْ رُءُوسُ الْقَوْمِ وَكُبَرَاؤُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، وَقَالَ: أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَعْنَاقَ إِذَا خَضَعَتْ فَأَرْبَابُهَا خَاضِعُونَ، فَجَعَلْتُ الْفِعْلَ أَوَّلًا لِلْأَعْنَاقِ، ثُمَّ جَعَلْتُ خَاضِعِينَ لِلرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
[البحر الطويل]
-[٥٤٨]- عَلَى قَبْضَةٍ مَرْجُوَّةٍ ظَهْرُ كَفِّهِ | فَلَا الْمَرْءُ مُسْتَحْيٍ وَلَا هُوَ طَاعِمُ |
فَأَنَّثَ فِعْلَ الظَّهْرِ لِأَنَّ الْكَفَّ تَجْمَعُ الظَّهْرَ، وَتَكْفِي مِنْهُ، كَمَا أَنَّكَ تَكْتَفِي بِأَنْ تَقُولَ: خَضَعْتُ لَكَ، مِنْ أَنْ تَقُولَ: خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتِي، وَقَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: كُلُّ ذِي عَيْنٍ نَاظِرٌ وَنَاظِرَةٌ إِلَيْكَ، لِأَنَّ قَوْلَكَ: نَظَرَتْ إِلَيْكَ عَيْنِي، وَنَظَرْتُ إِلَيْكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ بِتَرْكِ كُلٍّ، وَلَهُ الْفِعْلُ وَبِرَدِّهِ إِلَى الْعَيْنِ، فَلَوْ قُلْتَ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعَةٌ، كَانَ صَوَابًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهُهَا بِمَا قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الْأَعْنَاقُ هِيَ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ ذَلِيلَةٌ، لِلْآيَةِ الَّتِي يُنَزِّلُهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ
«خَاضِعِينَ» مُذَكَّرًا، لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي الْأَعْنَاقِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ جَرِيرٍ:
[البحر الوافر]
أَرَى مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنِّي | كَمَا أَخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلَالِ |
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ: مَرَّ لَوْ أُسْقِطَ مِنَ الْكَلَامِ لِأَدِيَ مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهُ وَلَمْ يُفْسِدْ سُقُوطُهُ مَعْنَى الْكَلَامِ عَمَّا كَانَ بِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُسْقِطَتِ الْأَعْنَاقُ مِنْ قَوْلِهِ: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَأَدَّى مَا بَقِيَ مِنَ الْكَلَامِ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّجَالَ إِذَا ذُلُّوا، فَقَدْ ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ، وَإِذَا ذَلَّتْ رِقَابُهُمْ فَقَدْ ذَلُّوا. فَإِنْ قِيلَ فِي الْكَلَامِ: فَظَلُّوا لَهَا خَاضِعِينَ، كَانَ الْكَلَامُ غَيْرُ فَاسِدٍ، لِسُقُوطِ الْأَعْنَاقِ، وَلَا مُتَغَيِّرٌ مَعْنَاهُ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ سُقُوطِهَا، فَصَرَفَ الْخَبَرَ بِالْخُضُوعِ إِلَى أَصْحَابِ الْأَعْنَاقِ، وَإِنْ كَانَ قَدِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِ الْأَعْنَاقِ لِمَا قَدْ جَرَى بِهِ اسْتِعْمَالُ الْعَرَبِ فِي كَلَامِهِمْ، إِذَا كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ بِهِ، وَمَا أُضِيفَ إِلَيْهِ يُؤَدِّي الْخَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنِ الْآخَرِ