وَيَقُولُ: إِنَّ «بَلْ» إِيجَابٌ وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْكَارٌ وَمَعْنَى الْكَلَامِ: إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ (بَلْ أَدْرَكَ)، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يُدْرِكْ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَبِالِاسْتِفْهَامِ قَرَأَ ذَلِكَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّ أَبَا عَمْرٍو أَنْكَرَهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي ذَكَرْتُ عَنِ الْمَكِّيِّينَ أَنَّهُمْ قَرَءُوهُ ذُكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَرَأَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي مَوْضِعِ بَلْ: أَمْ.
حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: ثنا عُثْمَانُ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، أَنَّهُ قَرَأَ «أَمْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ». وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ يَقْرَأُ بِإِثْبَاتِ يَاءٍ فِي بَلْ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ أَدَّارَكَ بِفَتْحِ أَلِفِهَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِفْهَامِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ
حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، قَالَ: ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ: «بَلَى أَدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» : أَيْ لَمْ يُدْرِكْ "
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ «بَلَى أَدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» إِنَّمَا هُوَ -[١٠٨]- اسْتِفْهَامٌ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ ". وَكَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَجَّهَ ذَلِكَ إِلَى أَنَّ مَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَاتِ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ الْقِرَاءَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْتُ إِحْدَاهُمَا عَنْ قِرَاءَةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، وَهِيَ (بَلْ أَدْرَكَ)، بِسُكُونِ لَامِ بَلْ وَفَتْحِ أَلْفِ أَدْرَكَ وَتَخْفِيفِ دَالِهَا، وَالْأُخْرَى مِنْهُمَا عَنْ قِرَاءَةِ الْكُوفَةِ، وَهِيَ ﴿بَلِ ادَّارَكَ﴾ [النمل: ٦٦]، بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ مِنَ ادَّارَكَ، لِأَنَّهُمَا الْقَرَاءَتَانِ الْمَعْرُوفَتَانِ فِي قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ عِنْدَنَا. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الَّتِي ذَكَرْتُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةَ الْمَعْنَى وَالْإِعْرَابِ، فَخِلَافٌ لَمَّا عَلَيْهِ مَصَاحِفُ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِيَ بَلَى زِيَادَةُ يَاءٍ فِي قِرَاءَاتِهِ لَيْسَتْ فِي الْمَصَاحِفِ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ قِرَاءَةٌ لَا نَعْلَمُهَا قَرَأَ بِهَا أَحَدٌ مِنْ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الَّتِي ذَكَرْتُ عَنِ ابْنِ مُحَيْصِنٍ، فَإِنَّ الَّذِي قَالَ فِيهَا أَبُو عَمْرٍو قَوْلٌ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تُحَقِّقُ بِبَلْ مَا بَعْدَهَا لَا تَنْفِيهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِنْكَارٌ لَا إِثْبَاتٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ مِنَ السَّاعَةِ فِي شَكٍّ، فَقَالَ: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل: ٦٦]. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: بَلْ أَدْرَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ فَأَيْقَنُوهَا إِذْ عَايَنُوهَا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ يَقِينُهُمْ بِهَا، إِذْ كَانُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا مُكَذِّبِينَ.


الصفحة التالية
Icon