حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، وَأَبُو السَّائِبِ، قَالَا: ثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ، سَمِعْتُ أَشْعَثَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى للَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَخَلِيلَهُ، وَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا عِضَاهَا وَصَيْدَهَا، وَلَا يُحْمَلُ فِيهَا سِلَاحٌ لِقِتَالٍ، وَلَا يُقْطَعُ مِنْهَا شَجَرٌ إِلَّا لِعَلَفِ بَعِيرٍ»
حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: ثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِيعَابِهَا الْكِتَابُ قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي كِتَابِهِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا﴾ [إبراهيم: ٣٥] وَلَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ أَنْ يَجْعَلَهُ آمِنًا مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ الَّذِيَ سَأَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمَانِ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. قَالُوا: وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَخَبَرَانِ لَا تَثْبُتُ بِهِمَا حُجَّةٌ -[٥٤٢]- لِمَا فِي أَسَانِيدِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَجِبُ التَّسْلِيمُ فِيهَا مِنْ أَجْلِهَا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ جَعَلَ مَكَّةَ حَرَمًا حِينَ خَلَقَهَا وَأَنْشَأَهَا، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِغَيْرِ تَحْرِيمٍ مِنْهُ لَهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَلَكِنْ بِمَنْعِهِ مَنْ أَرَادَهَا بِسُوءٍ، وَبِدَفْعِهِ عَنْهَا مِنَ الْآفَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَعَنْ سَاكِنِيهَا مَا أُحِلَّ بِغَيْرِهَا وَغَيْرِ سَاكِنِيهَا مِنَ النِّقْمَاتِ؛ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ أَمْرُهَا حَتَّى بَوَّأَهَا اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَهُ، وَأَسْكَنَ بِهَا أَهْلَهُ هَاجَرَ وَوَلَدَهُ إِسْمَاعِيلَ، فَسَأَلَ حِينَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهُ إيجادَ فَرْضِ تَحْرِيمِهَا عَلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً لِمَنْ بَعْدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، يَسْتَنُّونَ بِهَا فِيهَا، إِذْ كَانَ تَعَالَى ذِكْرُهُ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ جَاعِلُهُ لِلنَّاسِ إِمَامًا يُقْتَدَى بِهِ، فَأَجَابَهُ رَبُّهُ إِلَى مَا سَأَلَهُ، وَأَلْزَمَ عِبَادَهُ حِينَئِذٍ فَرْضَ تَحْرِيمِهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَصَارَتْ مَكَّةُ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً بِمَنْعِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِغَيْرِ إِيجَابِ اللَّهِ فَرْضَ الِامْتِنَاعِ مِنْهَا عَلَى عِبَادِهِ، وَمُحَرَّمَةٌ بِدَفْعِ اللَّهِ عَنْهَا بِغَيْرِ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهَا عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ فَرَضَ تَحْرِيمَهَا عَلَى خَلْقِهِ عَلَى لِسَانِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَوَاجِبٌ عَلَى عِبَادِهِ الِامْتِنَاعُ مِنِ اسْتِحْلَالِهَا، وَاسْتِحْلَالِ صَيْدِهَا وَعِضَاهِهَا، بِإِيجَابِهِ الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ بِبَلَاغِ إِبْرَاهِيمَ رِسَالَةَ اللَّهِ إِلَيْكَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ أُضِيفَ تَحْرِيمُهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ» لِأَنَّ فَرْضَ تَحْرِيمِهَا الَّذِي أَلْزَمَ اللَّهُ عِبَادَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَهُ بِهِ، دُونَ التَّحْرِيمِ -[٥٤٣]- الَّذِي لَمْ يَزَلْ مُتَعَبَّدًا لَهَا بِهِ عَلَى وَجْهِ الْكَلَاءَةِ وَالْحِفْظِ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ؛ كَانَ عَنْ مَسْأَلَةِ إِبْرَاهِيمَ رَبَّهُ إِيجَابَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِهِ، لَزِمَ الْعِبَادَ فَرْضُهُ دُونَ غَيْرُهُ. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا قُلْنَا صِحَّةُ مَعْنَى الْخَبَرَيْنِ، أَعْنِي خَبَرَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ». وَخَبَرُ جَابِرٍ وَأَبَى هُرَيْرَةَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ» وَأَنْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا دَافِعًا صِحَّةَ مَعْنَى الْآخَرِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ. وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا دَافِعًا بَعْضًا إِذَا ثَبَتَ صِحَّتُهَا، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرَانِ اللَّذَانِ رُوِيَا فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجِيئًا ظَاهِرًا مُسْتَفِيضًا يَقْطَعُ عُذْرَ مَنْ بَلَغَهُ. وَقَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧] فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ قَالَ قَبْلَ إِيجَابِ اللَّهِ فَرْضَ تَحْرِيمِهِ عَلَى لِسَانِهِ عَلَى خَلْقِهِ، فَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ تَحْرِيمَ اللَّهِ إِيَّاهُ الَّذِي حَرَّمَهُ بِحِيَاطَتِهِ إِيَّاهُ وَكَلَاءَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمِهِ إِيَّاهُ عَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ لَهُمْ بِذَلِكَ. وَإِنْ يَكُنْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْرِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ عَلَى لِسَانِهِ عَلَى خَلْقِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَبُّدِ، فَلَا مَسْأَلَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْنَا فِي ذَلِكَ