كَسَائِرِ مَا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ نَظَائِرِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ مِحْنَةَ اللَّهِ أَصْحَابَ رَسُولِهِ فِي الْقِبْلَةِ إِنَّمَا كَانَتْ فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدِ التَّحْوِيلِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ إِلَى الْكَعْبَةِ، حَتَّى ارْتَدَّ فِيمَا ذُكِرَ رِجَالٌ مِمَّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَظْهَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ نِفَاقَهُمْ، وَقَالُوا: مَا بَالُ مُحَمَّدٍ يُحَوِّلُنَا مَرَّةً إِلَى هَا هُنَا، وَمَرَّةً إِلَى هَا هُنَا؟ وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا مَضَى مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينِ، وَهُمْ يُصَلُّونَ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ: بَطَلَتْ أَعْمَالُنَا وَأَعْمَالُهُمْ وَضَاعَتْ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: تَحَيَّرَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِينِهِ. فَكَانَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَتَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾ [البقرة: ١٤٣] أَيْ: وَمَا جَعَلْنَا صَرْفَكَ عَنِ الْقِبْلَةِ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا، وَتَحْوِيلَكَ إِلَى غَيْرِهَا، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] بِمَعْنَى: وَمَا جَعَلْنَا خَبَرَكَ عَنِ الرُّؤْيَا الَّتِي، أَرَيْنَاكَ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَخْبَرَ الْقَوْمَ بِمَا كَانَ أُرِيَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ فِتْنَةٌ، وَكَذَلِكَ الْقِبْلَةُ الْأُولَى الَّتِي كَانَتْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ صُرِفَ عَنْهَا إِلَى الْكَعْبَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ فِتْنَةٌ وَلَا مِحْنَةٌ. ذِكْرُ الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ بِمَعْنَى مَا قُلْنَا
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: " -[٦٤٠]- كَانَتِ الْقِبْلَةُ فِيهَا بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ صَلَّتِ الْأَنْصَارُ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَوْلَيْنِ قَبْلَ قَدُومِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ وَجَّهَهُ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى الْكَعْبَةِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ قَائِلُونَ مِنَ النَّاسِ: ﴿مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ [البقرة: ١٤٢] لَقَدِ اشْتَاقَ الرَّجُلُ إِلَى مَوْلِدِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: ١٤٢] فَقَالَ أُنَاسٌ لَمَّا صُرِفَتِ الْقِبْلَةُ نَحْوَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ: كَيْفَ بِأَعْمَالِنَا الَّتِي كُنَّا نَعْمَلُ فِي قِبْلَتِنَا الْأُولَى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣] وَقَدْ يَبْتَلِي اللَّهُ الْعِبَادَ بِمَا شَاءَ مِنْ أَمْرِهِ الْأَمْرَ بَعْدَ الْأَمْرِ، لِيَعْلَمَ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يَعْصِيَهُ. وَكُلُّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ إِذَا كَانَ فِي إِيمَانٍ بِاللَّهِ، وَإِخْلَاصٍ لَهُ، وَتَسْلِيمٍ لِقَضَائِهِ "