وَالْمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى أَوْلَادِهِمَا لَهُمَا الْإِفْطَارُ، وَإِنْ أَطَاقَتَا الصَّوْمَ بِأَبْدَانِهِمَا، مَعَ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي
حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ، قَالَ: ثنا قَبِيصَةُ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَغَدَّى فَقَالَ: «تَعَالَ أُحَدِّثْكَ، إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ» قِيلَ: إِنَّا لَمْ نَدَعْ إِجْمَاعًا فِي الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ، وَإِنَّمَا ادَّعَيْنَا فِي الرِّجَالِ الَّذِينَ وَصَفْنَا صِفَتَهُمْ. فَأَمَّا الْحَامِلُ، وَالْمُرْضِعُ فَإِنَّمَا عَلِمْنَا أَنَّهُنَّ غَيْرُ مَعْنِيَّاتٍ بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] وَخَلَا الرِّجَالِ أَنْ يَكُونُوا مَعْنِيِّينَ بِهِ لِأَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ مَعْنِيَّاتٍ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِنَّ مِنَ الرِّجَالِ لَقِيلَ: وَعَلَى اللَّوَاتِي يُطِقْنَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ الْعَرَبِ إِذَا أُفْرِدَ الْكَلَامُ بِالْخَبَرِ عَنْهُنَّ دُونَ الرِّجَالِ؛ فَلَمَّا قِيلَ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِهِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، أَوِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. فَلَمَّا صَحَّ بِإِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَطَاقَ مِنَ الرِّجَالِ الْمُقِيمِينَ الْأَصِحَّاءِ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَغَيْرُ مُرَخَّصٍ لَهُ فِي الْإِفْطَارِ وَالِافْتِدَاءِ، فَخَرَجَ الرِّجَالُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مَعْنِيِّينَ بِالْآيَةِ، وَعَلِمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَمْ يُرَدْنَ بِهَا لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ الْخَبَرَ عَنِ النِّسَاءِ إِذَا انْفَرَدَ الْكَلَامُ بِالْخَبَرِ عَنْهُنَّ وَعَلَى اللَّوَاتِي يُطِقْنَهُ، وَالتَّنْزِيلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صَحِيحًا، فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ وَضَعَ عَنِ الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ مَا دَامَتَا عَاجِزَتَيْنِ عَنْهُ حَتَّى تُطِيقَا فَتَقْضِيَا، كَمَا -[١٨٠]- وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِهِ حَتَّى يُقِيمَ فَيَقْضِيَهُ، لَا أَنَّهُمَا أُمِرَتَا بِالْفِدْيَةِ، وَالْإِفْطَارِ بِغَيْرِ وُجُوبِ قَضَاءٍ، وَلَوْ كَانَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْمُسَافِرِ وَالْمُرْضِعِ وَالْحَامِلِ الصَّوْمَ» دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا عَنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَضَعَ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] لَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُسَافِرِ إِذَا أَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ قَضَاءٌ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ بِإِفْطَارِهِ ذَلِكَ إِلَّا الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْحَامِلِ، وَالْمُرْضِعِ، وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ قَائِلٌ خِلَافٌ لِظَاهِرِ كِتَابِ اللَّهِ وَلِمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الطَّعَامَ، وَذَلِكَ لِتَأْوِيلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مُخَالِفٌ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ذَلِكَ: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ» فَقِرَاءَةٌ لِمَصَاحِفِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ خِلَافٌ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ الِاعْتِرَاضُ بِالرَّأْيِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وِرَاثَةً عَنْ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْلًا ظَاهِرًا قَاطِعًا لِلْعُذْرِ، لِأَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الْحُجَّةُ مِنَ الدِّينِ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى مَا قَدْ ثَبَتَ وَقَامَتْ بِهِ حُجَّةٌ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِالْآرَاءِ وَالظُّنُونِ وَالْأَقْوَالِ الشَّاذَّةِ. وَأَمَّا مَعْنَى «الْفِدْيَةِ» فَإِنَّهُ الْجَزَاءُ مِنْ قَوْلِكَ: فَدَيْتُ هَذَا بِهَذَا: أَيْ جَزَيْتُهُ بِهِ، وَأَعْطَيْتَهُ بَدَلًا مِنْهُ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَ الصِّيَامَ جَزَاءٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ لِكُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ مِنْ أَيَّامِ صِيَامِهِ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَإِنَّ الْقُرَّاءَ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِرَاءَتِهِ، فَبَعْضٌ -[١٨١]- يَقْرَأُ بِإِضَافَةِ الْفِدْيَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَخَفْضِ الطَّعَامِ؛ وَذَلِكَ قِرَاءَةُ مُعْظَمِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ بِمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أَنْ يَفْدُوهُ طَعَامُ مِسْكِينٍ؛ فَلَمَّا جُعِلَ مَكَانَ أَنْ يَفْدِيَهُ الْفِدْيَةُ أُضِيفَ إِلَى الطَّعَامِ، كَمَا يُقَالُ: لَزِمَنِي غَرَامَةُ دِرْهَمٍ لَكَ بِمَعْنَى لَزِمَنِي أَنْ أَغْرَمَ لَكَ دِرْهَمًا، وَآخَرُونَ يَقْرَءُونَهُ بِتَنْوِينِ الْفِدْيَةِ؛ وَرَفْعُ الطَّعَامِ بِمَعْنَى الْإِبَانَةِ فِي الطَّعَامِ عَنْ مَعْنَى الْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي صَوْمِهِ الْوَاجِبِ، كَمَا يُقَالُ لَزِمَنِي غَرَامَةُ دِرْهَمٍ لَكَ، فَتَبَيَّنَ بِالدِّرْهَمِ عَنْ مَعْنَى الْغَرَامَةِ مَا هِيَ وَمَا حَدُّهَا، وَذَلِكَ قِرَاءَةُ عُظْمِ قُرَّاءِ أَهْلِ الْعِرَاقِ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ بِالصَّوَابِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: «فِدْيَةٌ طَعَامٌ» بِإِضَافَةِ الْفِدْيَةِ إِلَى الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ اسْمٌ لِلْفِعْلِ، وَهِيَ غَيْرُ الطَّعَامِ الْمَفْدِيِّ بِهِ الصَّوْمُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْفِدْيَةَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: فَدَيْتُ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ بِطَعَامِ مِسْكِينٍ، أَفْدِيهِ فِدْيَةً، كَمَا يُقَالُ: جَلَسْتُ جِلْسَةً، وَمَشَيْتُ مِشْيَةً، وَالْفِدْيَةُ فِعْلٌ، وَالطَّعَامُ غَيْرُهَا. فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَبَيَّنَ أَنَّ أَصَحَّ الْقِرَاءَتَيْنِ إِضَافَةُ الْفِدْيَةِ إِلَى الطَّعَامِ، وَوَاضِحٌ خَطَأُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ تَرْكَ إِضَافَةِ الْفِدْيَةِ إِلَى الطَّعَامِ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى مِنْ -[١٨٢]- أَجْلِ أَنَّ الطَّعَامَ عِنْدَهُ هُوَ الْفِدْيَةُ. فَيُقَالُ لِقَائِلِ ذَلِكَ: قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْفِدْيَةَ مُقْتَضِيَةٌ مَفْدِيًّا وَمَفْدِيًّا بِهِ وَفِدْيَةً، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ هُوَ الْفِدْيَةُ وَالصَّوْمُ هُوَ الْمَفْدِيُّ بِهِ، فَأَيْنَ اسْمُ فِعْلِ الْمُفْتَدَى الَّذِي هُوَ فِدْيَةٌ؟ إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ خَطَأٌ بَيِّنٌ غَيْرُ مُشْكِلٍ. وَأَمَّا الطَّعَامُ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْمِسْكِينِ وَالْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ مُخْتَلِفُونَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ بِتَوْحِيدِ الْمِسْكِينِ بِمَعْنَى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لِكُلِّ يَوْمٍ أَفْطَرَهُ.


الصفحة التالية
Icon