حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، قَالَا: ثنا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ، وَابْنُ لَهِيعَةَ، قَالَا: ثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَسْلَمُ أَبُو عِمْرَانَ مَوْلَى تُجِيبَ، قَالَ: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ، قَالَ: وَصَفَفْنَا صَفًّا عَظِيمًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ حَتَّى دَخَلَ فِيهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا مُقْبِلًا، فَصَاحَ النَّاسُ، وَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ، صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الْأَنْصَارِ: إِنَّا لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ دِينَهُ، وَكَثَّرَ نَاصِرِيهِ، قُلْنَا: فِيمَا بَيْنَنَا بَعْضُنَا لِبَعْضٍ سِرًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، فَلَوْ أَنَّا أَقَمْنَا فِيهَا فَأَصْلَحْنَا مَا ضَاعَ مِنْهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا هَمَمْنَا بِهِ، فَقَالَ: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] بِالْإِقَامَةِ الَّتِي أَرَدْنَا أَنْ نُقِيمَ فِي الْأَمْوَالِ وَنُصْلِحَهَا، فَأَمَرَنَا بِالْغَزْوِ، فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ " -[٣٢٤]- وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنِ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٥] وَسَبِيلُهُ: طَرِيقُهُ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ وَأَوْضَحَهُ لَهُمْ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: وَأَنْفِقُوا فِي إِعْزَازِ دِينِي الَّذِي شَرَعْتُهُ لَكُمْ بِجِهَادِ عَدُوِّكُمُ النَّاصِبِينَ لَكُمُ الْحَرْبَ عَلَى الْكُفْرِ بِي وَنَهَاهُمْ أَنْ يُلْقُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَالَ: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] وَذَلِكَ مِثَلٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلْمُسْتَسْلِمِ لِلْأَمْرِ: أَعْطَى فُلَانٌ بِيَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ لِلْمُمَكِّنِ مِنْ نَفْسِهِ مِمَّا أُرِيدَ بِهِ أَعْطَى بِيَدَيْهِ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] وَلَا تَسْتَسْلِمُوا لِلْهَلَكَةِ فَتُعْطُوهَا أَزِمَّتَكُمْ فَتَهْلِكُوا وَالتَّارِكُ النَّفَقَةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عِنْدَ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مُسْتَسْلِمٌ لِلْهَلَكَةِ بِتَرْكِهِ أَدَاءَ فَرْضِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ أَحَدَ سِهَامِ الصَّدَقَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ الثَّمَانِيَةِ فِي سَبِيلِهِ، فَقَالَ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة: ٦٠] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: ٦٠] فَمَنْ تَرَكَ إِنْفَاقَ مَا لَزِمَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَلَى مَا لَزِمَهُ كَانَ لِلْهَلَكَةِ مُسْتَسْلِمًا وَبِيَدَيْهِ لِلتَّهْلُكَةِ مُلْقِيًا. وَكَذَلِكَ الْآيِسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِذَنْبٍ سَلَفَ مِنْهُ مُلْقٍ بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧] وَكَذَلِكَ التَّارِكُ غَزْوَ الْمُشْرِكِينَ وَجِهَادَهُمْ فِي حَالِ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي حَالِ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ، مُضَيِّعٌ فَرْضًا، -[٣٢٥]- مُلْقٍ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ. فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي كُلُّهَا يَحْتَمِلُهَا قَوْلُهُ: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَصَّ مِنْهَا شَيْئًا دُونَ شَيْءٍ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ نَهَى عَنِ الْإِلْقَاءِ بِأَيْدِينَا لِمَا فِيهِ هَلَاكُنَا، وَالِاسْتِسْلَامِ لِلْهَلَكَةِ، وَهِيَ الْعَذَابُ، بِتَرْكِ مَا لَزِمَنَا مِنْ فَرَائِضِهِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ مِنَّا الدُّخُولُ فِي شَيْءٍ يَكْرَهُ اللَّهُ مِنَّا مِمَّا نَسْتَوْجِبُ بِدُخُولِنَا فِيهِ عَذَابَهُ. غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ تَأْوِيلِ الْآيَةِ: وَأَنْفِقُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا تَتْرُكُوا النَّفَقَةَ فِيهَا فَتَهْلَكُوا بِاسْتِحْقَاقِكُمْ بِتَرْكِكُمْ ذَلِكَ عَذَابِي