وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: «بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، فَنَحَرُوا الْهَدْيَ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ، ثُمَّ لَمْ نَعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلَا أَنْ يَعُودُوا لِشَيْءٍ»
حَدَّثَنِي بِذَلِكَ يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْهُ. قَالَ: وَسُئِلَ مَالِكٌ، عَمَّنْ أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ وَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ " يُحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَيَنْحَرُ هَدْيَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ حَيْثُ يُحْبَسُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ بِمَرَضٍ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ، أَنْ يَبْدَأَ بِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَيَفْتَدِيَ، ثُمَّ -[٣٤٧]- يَجْعَلُهَا عُمْرَةً، وَيَحِجُّ عَامًا قَابِلًا وَيُهْدِي " وَعِلَّةُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَعِنِّي مَنْ قَالَ قَوْلَ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَصْرِ الْمُشْرِكِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَمَنْ مَعَهُ بِنَحْرِ هَدَايَاهُمْ وَالْإِحْلَالِ. قَالُوا: فَإِنَّمَا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَصْرِ الْعَدُوِّ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ حُكْمَهَا إِلَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ قَالُوا: وَأَمَّا الْمَرِيضُ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُطِقْ لِمَرَضِهِ السَّيْرَ حَتَّى فَاتَتْهُ عَرَفَةُ، فَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ فَاتَهُ الْحَجُّ، عَلَيْهِ الْخُرُوجُ مِنْ إِحْرَامِهِ بِمَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَلَيْسَ مِنْ مَعْنَى الْمُحْصَرِ الَّذِي نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي شَأْنِهِ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ بِمَعْنَى: فَإِنْ أَحْصَرَكُمْ خَوْفُ عَدُوٍّ، أَوْ مَرَضٍ، أَوْ عِلَّةٍ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، أَيْ صَيَّرَكُمْ خَوْفُكُمْ، أَوْ مَرَضُكُمْ تُحْصِرُونَ أَنْفُسَكُمْ، فَتَحْبِسُونَهَا عَنِ النُّفُوذِ لِمَا أَوْجَبْتُمُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ. فَلِذَا قِيلَ «أُحْصِرْتُمْ» لَمَّا أَسْقَطَ ذِكْرَ الْخَوْفِ، وَالْمَرَضِ. يُقَالُ مِنْهُ: أَحْصَرَنِي خَوْفِي مِنْ فُلَانٍ عَنْ لِقَائِكَ، وَمَرَضِي عَنْ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ: جَعَلَنِي أَحْبِسُ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَابِسُ الرَّجُلَ وَالْإِنْسَانَ، قِيلَ: حَصَرَنِي فُلَانٌ عَنْ لِقَائِكَ، بِمَعْنَى حَبَسَنِي عَنْهُ. فَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ مَا ظَنَّهُ الْمُتَأَوِّلُ مِنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] فَإِنْ حَبَسَكُمْ حَابِسٌ مِنَ الْعَدُوِّ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ: فَإِنْ حُصِرْتُمْ. وَمِمَّا يُبَيِّنُ صِحَّةَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ الْآيَةِ مُرَادٌ بِهَا إِحْصَارُ غَيْرِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ، قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٦] وَالْأَمْنُ إِنَّمَا يَكُونُ بِزَوَالِ الْخَوْفِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِحْصَارَ الَّذِي عَنَى اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْخَوْفُ الَّذِي يَكُونُ بِزَوَالِهِ الْأَمْنُ. -[٣٤٨]- وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ حَبْسُ الْحَابِسِ الَّذِي لَيْسَ مَعَ حَبْسِهِ خَوْفٌ عَلَى النَّفْسِ مِنْ حَبْسِهِ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الْآيَةِ بِظَاهِرِهَا الْمَتْلُوِّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَلْحَقُ حُكْمُهُ عِنْدَنَا بِحُكْمِهِ مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ حَبْسَ مَنْ لَا خَوْفَ عَلَى النَّفْسِ مِنْ حَبْسِهِ كَالسُّلْطَانِ غَيْرِ الْمَخُوفَةِ عُقُوبَتُهُ، وَالْوَالِدِ، وَزَوْجِ الْمَرْأَةِ، إِنْ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ حَبْسٌ، وَمَنْعٌ عَنِ الشُّخُوصِ لِعَمَلِ الْحَجِّ، أَوِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدِ إِيجَابِ الْمَمْنُوعِ الْإِحْرَامَ، غَيْرَ دَاخِلٍ فِي ظَاهِرِ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ﴾ [البقرة: ١٩٦] لِمَا وَصَفْنَا مِنْ أَنِّ مَعْنَاهُ: فَإِنْ أَحْصَرَكُمْ خَوْفُ عَدُوٍّ، بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٦] وَقَدْ بَيَّنَ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَصْرُ: حَصْرُ الْعَدُوِّ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ لِمَا وَصَفْنَا، وَكَانَ ذَلِكَ مَنْعًا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، فَكُلُّ مَانِعٍ عَرَضَ لِلْمُحْرِمِ فَصَدَّهُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ، فَهُوَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحُكْمِ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ شَاةٌ


الصفحة التالية
Icon