حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: ثنا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ سَيَّارٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَهَيْئَةِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧] بِمَعْنَى النَّفْيِ عَنِ الْحَجِّ بِأَنْ يَكُونَ فِي وَقْتِهِ جِدَالٌ، وَمِرَاءٌ دُونَ النَّهْيِ عَنْ جِدَالِ النَّاسِ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَعْنِيهِمْ مِنَ الْأُمُورِ، أَوْ لَا يَعْنِيهِمْ. وَذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقِ اسْتَحَقَّ مِنَ اللَّهِ الْكَرَامَةَ مَا وَصَفَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِحَجَّةٍ تَارِكًا لِلَّرَفَثِ، وَالْفُسُوقِ اللَّذَيْنِ نَهَى اللَّهُ الْحَاجَّ عَنْهُمَا فِي حَجِّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضُمَّ إِلَيْهِمَا الْجِدَالَ. فَلَوْ كَانَ الْجِدَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧] مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى نَحْوِ الَّذِي تَأَوَّلَ ذَلِكَ مَنْ تَأَوَّلَهُ مِنْ أَنَّهُ الْمِرَاءُ، وَالْخُصُومَاتُ، أَوِ السِّبَابُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لَمَا كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخُصَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ الَّتِي ذَكَرَ أَنَّهُ يَسَتَحِقَّهَا الْحَاجُّ الَّذِي وَصَفَ أَمْرَهُ بِاجْتِنَابِ خُلَّتَيْنِ مِمَّا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَجِّهِ دُونَ الثَّالِثَةِ الَّتِي هِيَ مَقْرُونَةٌ بِهِمَا. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الثَّالِثَةِ مُخَالِفًا مَعْنَى صَاحِبَتَيْهَا فِي أَنَّهَا خَبَرٌ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي -[٤٩٢]- وَصَفْنَا، وَأَنَّ الْأُخْرَيَيْنِ بِمَعْنَى النَّهْيِ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُجْتَنِبَهُمَا فِي حَجِّهِ مُسْتَوْجِبٌ مَا وَصَفَ مِنْ إِكْرَامِ اللَّهِ إِيَّاهُ مِمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُكْرِمُهُ بِهِ إِذَا كَانَتَا بِمَعْنَى النَّهْيِ، وَكَانَ الْمُنْتَهِي عَنْهُمَا لِلَّهِ مُطِيعًا بِانْتِهَائِهِ عَنْهُمَا، تَرْكُ ذِكْرِ الثَّالِثَةِ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَاهُمَا، وَكَانَتْ مُخَالَفَةُ سَبِيلِهَا سَبِيلَهُمَا. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الْمُخَالِفَةِ بَيْنَ إِعْرَابِ الْجِدَالِ وَإِعْرَابِ الرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، لِيَعْلَمَ سَامِعُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَهْمِ بِاللُّغَاتِ أَنَّ الَّذِيَ مِنْ أَجْلِهِ خُولِفَ بَيْنَ إِعْرَابَيْهِمَا اخْتِلَافُ مَعْنَيَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ صَوَابًا قِرَاءَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ إِعْرَابِهِ عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهِ، إِذْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَدْ تُتْبِعُ بَعْضَ الْكَلَامِ بَعْضًا بِإِعْرَابٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي، وَخَاصَّةً فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْكَلَامِ. فَأَعْجَبُ الْقِرَاءَاتِ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْتُ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ (فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) بِرَفْعِ الرَّفَثِ، وَالْفُسُوقِ، وَتَنْوِينِهِمَا، وَفَتْحِ الْجِدَالِ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَذَلِكَ هُوَ قِرَاءَةُ جَمَاعَةِ الْبَصْرِيِّينَ وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنِ اخْتِلَافِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي أَتَمِّهِمْ حَجًّا، وَالْقَائِلِينَ مَعْنَاهُ: النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: غَدًا الْحَجُّ، مُخَالِفًا بِهِ قَوْلَ الْآخَرِ: الْيَوْمَ الْحَجُّ، فَقَوْلٌ فِي حِكَايَتِهِ الْكِفَايَةُ عَنِ الِاسْتِشْهَادِ عَلَى وَهَائِهِ وَضَعْفِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَوْلٌ -[٤٩٣]- لَا تُدْرِكُ صِحَّتَهُ إِلَّا بِخَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ وَخَبَرٍ صَادِقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ كَذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. أَوْ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَعَانِي الْجِدَالِ دُونَ بَعْضٍ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفْنَا. وَأَمَّا دَلَالَتُنَا عَلَى قَوْلِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ نَفْيٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ عَنْ شُهُورِ الْحَجِّ، فْالِاخْتِلَافُ الَّذِي كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَخْتَلِفُ فِيهَا بَيْنَهَا قَبْلُ كَمَا وَصَفْنَا. وَأَمَّا دَلَالَتُنَا عَلَى أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَالْخَبَرُ الْمُسْتَفِيضُ فِي أَهْلِ الْأَخْبَارِ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَفْعَلُ ذَلِكَ مَعَ دَلَالَةِ قَوْلِ اللَّهِ تَقَدَّسَ اسْمُهُ: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا﴾ [التوبة: ٣٧]