: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٠٣] إِذَا هُوَ تَأَخَّرَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ ثُمَّ نَفَرَ؟ هَذَا مَعَ إِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا رَمَى، وَذَبَحَ، وَحَلَقَ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، وَتَصْرِيحُ الرِّوَايَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ ذَلِكَ،
الَّتِي حَدَّثَنَا بِهَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ الْحَنْظَلِيُّ، قَالَ: ثنا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، قَالَتْ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَتَى يُحِلُّ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا رَمَيْتُمْ، وَذَبَحْتُمْ، وَحَلَقْتُمْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ» قَالَ: وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ وَأَمَّا الَّذِي تَأَوَّلَ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى: لَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ فَلَا وَجْهَ لِتَحْدِيدِ ذَلِكَ بِوَقْتٍ، وَإِسْقَاطِهِ الْإِثْمَ عَنِ الْحَاجِّ سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً دُونَ آثَامِهِ السَّالِفَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرْ ذَلِكَ عَلَى نَفْيِ إِثْمِ وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ بِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَلَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلْ دَلَالَةُ ظَاهَرِ التَّنْزِيلِ تَبِينُ عَنْ أَنِّ الْمُتَعَجِّلَ فِي الْيَوْمَيْنِ وَالْمُتَأَخِّرَ لَا إِثْمَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَالِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَحْوَالِ، وَالْخَبَرُ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ بِانْقِضَاءِ حَجِّهِ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ خَارِجٌ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فَفِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةِ ظَاهَرِ التَّنْزِيلِ، وَصَرِيحِ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ انْقِضَاءِ حَجِّهِ " إِلَى عَامٍ قَابِلٍ. -[٥٧٠]- فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: مَا الْجَالِبُ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: ٢٠٣] وَمَا مَعْنَاهَا؟ قِيلَ: الْجَالِبُ لَهَا مَعْنَى قَوْلِهِ. ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] مَعْنَى حَطَطْنَا ذُنُوبَهُ، وَكَفَّرْنَا آثَامَهُ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ مَعْنَى: جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ لِمَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي حَجِّهِ، فَتَرَكَ ذِكْرَ جَعَلْنَا تَكْفِيرَ الذُّنُوبِ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّهُ كَأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ هَذِهِ الرُّخْصَةَ فَقَدْ أخْبَرَ عَنْ أَمْرٍ، فَقَالَ: ﴿لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: ٢٠٣] أَيْ هَذَا لِمَنِ اتَّقَى. وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، وَزَعَمَ أَنَّ الصِّفَةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا، وَلَكِنَّهَا فِيمَا زَعَمَ مِنْ صِلَةِ «قَوْلٍ» مَتْرُوكٍ، فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ عِنْدَهُ «قُلْنَا» :﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: ٢٠٣]، وَقَامَ قَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٠٣] مَقَامَ الْقَوْلِ. وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَوْضِعَ طَرْحِ الْإِثْمِ فِي الْمُتَعَجِّلِ، فَجُعِلَ فِي الْمُتَأَخِّرِ، وَهُوَ الَّذِي أَدَّى وَلَمْ يُقَصِّرْ مِثْلَ مَا جُعِلَ عَلَى الْمُقَصِّرِ، كَمَا يُقَالُ فِي الْكَلَامِ: إِنْ تَصَدَّقْتَ سِرًّا فَحَسَنٌ، وَإِنِ أَظْهَرْتَ فَحَسَنٌ. وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ عَلَانِيَةً إِذَا لَمْ يَقْصِدِ الرِّيَاءَ فَحَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْرَارُ أَحْسَنَ وَلَيْسَ فِي وَصْفِ حَالَتَيِ الْمُتَصَدِّقَيْنِ بِالْحُسْنِ وَصْفُ إِحْدَاهُمَا بِالْإِثْمِ؛ وَقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ النَّافِرِينَ بِنَفْيِ الْإِثْمِ عَنْهُمَا، وَمُحَالٌ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمَا إِلَّا مَا كَانَ فِي تَرْكِهِ الْإِثْمَ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةَ. وَفِي إِجْمَاعِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُمَا جَمِيعًا لَوْ تَرَكَا النَّفْرَ، وَأَقَامَا بِمِنًى لَمْ يَكُونَا -[٥٧١]- آثِمَيْنِ مَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ مَنْ حَكَيْنَا عَنْهُ هَذَا الْقَوْلَ. وَقَالَ أَيْضًا: فِيهِ وَجْهٌ آخِرُ، وَهُوَ مَعْنَى نَهْيِ الْفَرِيقَيْنِ عَنْ أَنْ يُؤَثِّمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٧٣] لَا يَقُلِ الْمُتَعَجِّلُ لِلْمُتَأَخِّرِ: أَنْتَ آثِمٌ، وَلَا الْمُتَأَخِّرُ لِلْمُتَعَجِّلِ: أَنْتَ آثِمٌ بِمَعْنَى: فَلَا يُؤَثِّمَنَّ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ. وَهَذَا أَيْضًا تَأْوِيلٌ لِقَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مُخَالِفٌ، وَكَفَى بِذَلِكَ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهِ