حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ الْبَحْرَانِيُّ، قَالَ: ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ قَالَ: ثنا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فَقِيرًا فَلْيَبْدَأْ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلَ فَلْيَبْدَأْ مَعَ نَفْسِهِ بِمَنْ يَعُولُ، ثُمَّ إِنْ وَجَدَ فَضْلًا بَعْدَ ذَلِكَ فَلْيَتَصَدَّقْ عَلَى غَيْرِهِمْ»
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: " أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ بِبَيْضَةٍ مِنْ ذَهَبٍ أَصَابَهَا فِي بَعْضِ الْمَعَادِنِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خُذْ هَذِهِ مِنِّي صَدَقَةً، فَوَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُ أَمْلِكُ غَيْرَهَا فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَأَتَاهُ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «هَاتِهَا» مُغْضَبًا، فَأَخَذَهَا فَحَذَفَهُ بِهَا حَذْفَةً لَوْ أَصَابَهُ شَجَّهُ، أَوْ عَقَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «يَجِيءُ أَحَدُكُمْ بِمَالِهِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَجْلِسُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى»
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثنا شُعْبَةُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْهَجَرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْأَحْوَصِ يُحَدِّثُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «-[٦٩٢]- ارْضَخْ مِنَ الْفَضْلِ، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يَطُولُ بِاسْتِقْصَاءِ ذِكْرِهَا الْكِتَابُ. فَإِذَا كَانَ الَّذِي أَذِنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِالْفَضْلِ عَنْ حَاجَةِ الْمُتَصَدِّقِ الْفَضْلَ مِنْ ذَلِكَ، هُوَ الْعَفْوُ مِنْ مَالِ الرَّجُلِ؛ إِذْ كَانَ الْعَفْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الْمَالِ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ هُوَ الزِّيَادَةُ وَالْكَثْرَةُ، وَمَنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: ٩٥] بِمَعْنَى: زَادُوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَدَدِ وَكَثُرُوا، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
[البحر الوافر]

وَلَكِنَّا يَعَضُّ السَّيْفُ مِنَّا بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ
يَعْنِي بِهِ كَثِيرَاتِ الشُّحُومِ. وَمِنْ ذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ: خُذْ مَا عَفَا لَكَ مِنْ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ: مَا فَضَلَ فَصَفَا لَكَ عَنْ جَهْدِهِ بِمَا لَمْ تَجْهَدْهُ. كَانَ بَيِّنًا أَنَّ الَّذِيَ أَذِنَ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ ﴿قُلِ الْعَفْوَ﴾ [البقرة: ٢١٩] لِعِبَادِهِ مِنَ النَّفَقَةِ، فَأَذِنَهُمْ بِإِنْفَاقِهِ إِذَا أَرَادُوا إِنْفَاقَهُ هُوَ الَّذِي بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَنْ غِنًى» وَأَذِنَهُمْ بِهِ فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَفْوُ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ؟ قِيلَ: أَنْكَرْنَا ذَلِكَ لَقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَى أَنَّ مَنَ حَلَّتْ فِي مَالِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، -[٦٩٣]- فَهَلَكَ جَمِيعُ مَالِهِ إِلَّا قَدْرَ الَّذِي لَزِمَ مَالَهُ لِأَهْلِ سَهْمَانِ الصَّدَقَةُ، أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ، إِذَا كَانَ هَلَاكُ مَالِهِ بَعْدَ تَفْرِيطِهِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَانَ لَهُمْ فِي مَالِهِ إِلَيْهِمْ، وَذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّهُ جَهَدُهُ إِذَا سَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ لَا عَفْوُهُ، وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَا عَلِمَ عِبَادُهُ وَجْهَ إِنْفَاقِهِمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَفْوًا، مَا يَبْطُلُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا اسْمَ جَهْدٍ فِي حَالَةٍ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَبَيْنَ فَسَادِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَعْنَى الْعَفْوِ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ رَبُّ الْمَالِ إِلَى إِمَامِهِ، فَأَعْطَاهُ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ قَلِيلِ مَالِهِ، وَكَثِيرِهِ، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعْنَاهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فِي أَمْوَالِكُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو لُبَابَةَ: «إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ مَالِي صَدَقَةً»، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ. وَالثُّلُثُ لَا شَكَّ أَنَّهُ بَيَّنٌ فَقْدُهُ مِنْ مَالِ ذِي الْمَالِ، وَلَكِنَّهُ عِنْدِي كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان: ٦٧] وَكَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ [الإسراء: ٢٩] وَذَلِكَ هُوَ مَا حَدَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَاحْتِمَالِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ، أَمْ ثَابِتَةُ الْحُكْمِ عَلَى -[٦٩٤]- الْعِبَادِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَتْهَا الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ


الصفحة التالية
Icon