حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْمِصْرِيُّ، قَالَ: ثنا أَبُو صَالِحٍ الْحَرَّانِيُّ، قَالَ: ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ يَحْيَى، أَخْبَرَهُ عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " أَنَّ نَاسًا، مِنْ حِمْيَرٍ أَتَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ، فَكَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بَيَانَ مَا سَأَلُوا عَنْهُ، وَأَنْزَلَ فِيمَا سَأَلَ عَنْهُ الرَّجُلُ: ﴿نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ائْتِهَا مُقْبِلَةً، وَمُدْبِرَةً إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْفَرْجِ» وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٣] مِنْ أَيِّ وَجْهٍ شِئْتُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ أَنَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كَلِمَةٌ تَدُلُّ إِذَا ابْتُدِئَ بِهَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عَنِ الْوُجُوهِ، وَالْمَذَاهِبِ، فَكَأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: أَنَّى لَكَ هَذَا الْمَالُ؟ يُرِيدُ مِنْ أَيِّ الْوُجُوهِ لَكَ، وَلِذَلِكَ يُجِيبُ الْمُجِيبُ فِيهِ بِأَنْ يَقُولَ: مِنْ كَذَا -[٧٦٠]- وَكَذَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُخْبِرًا عَنْ زَكَرِيَّا فِي مَسْأَلَتِهِ مَرْيَمَ: ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ٣٧] وَهِيَ مُقَارِبَةٌ أَيْنَ وَكَيْفَ فِي الْمَعْنَى، وَلِذَلِكَ تَدَاخَلَتْ مَعَانِيهَا، فَأَشْكَلَتْ «أَنَّى» عَلَى سَامِعِهَا، وَمُتَأَوِّلِهَا حَتَّى تَأَوَّلَهَا بَعْضُهُمْ بِمَعْنَى أَيْنَ، وَبَعْضُهُمْ بِمَعْنَى كَيْفَ، وَآخَرُونَ بِمَعْنَى مَتَى، وَهِيَ مُخَالَفَةٌ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي مَعْنَاهَا وَهُنَّ لَهَا مُخَالِفَاتٌ. وَذَلِكَ أَنَّ «أَيْنَ» إِنَّمَا هِيَ حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْأَمَاكِنِ وَالْمَحَالِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى افْتِرَاقِ مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ بِافْتِرَاقِ الْأَجْوِبَةِ عَنْهَا. أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِلًا لَوْ سَأَلَ آخَرَ فَقَالَ: أَيْنَ مَالُكَ؟ لَقَالَ بِمَكَانِ كَذَا، وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَيْنَ أَخُوكَ؟ لَكَانَ الْجَوَّابُ أَنْ يَقُولَ: بِبَلْدَةِ كَذَا، أَوْ بِمَوْضِعِ كَذَا، فَيُجِيبَهُ بِالْخَبَرِ عَنْ مَحَلِّ مَا سَأَلَهُ عَنْ مَحَلِّهِ، فَيُعْلَمُ أَنَّ أَيْنَ مَسْأَلَةٌ عَنِ الْمَحَلِّ. وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ لِآخَرَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ لَقَالَ: صَالِحٌ أَوْ بِخَيْرٍ أَوْ فِي عَافِيَةٍ، وَأَخْبَرَهُ عَنْ حَالِهِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَيُعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّ كَيْفَ مَسْأَلَةٌ عَنْ حَالِ الْمَسْئُولِ عَنْ حَالِهِ. وَلَوْ قَالَ لَهُ: أَنَّى يُحْيِي اللَّهُ هَذَا الْمَيِّتَ؟ لَكَانَ الْجَوَّابُ أَنْ يُقَالَ: مِنْ وَجْهِ كَذَا وَوَجْهِ كَذَا، فَيَصِفُ قَوْلًا نَظِيرَ مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلَّذِي قَالَ: ﴿أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩] فِعْلًا حِينَ بَعَثَهُ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِهِ. وَقَدْ فَرَّقَتِ الشُّعَرَاءُ بَيْنَ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا، فَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ:
[البحر الطويل]
| تَذَكَّرَ مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبُهُ | يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الْهَجْمَةِ الْأَبِلْ |
[البحر المنسرح]
| أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ نَابَكَ الطَّرَبُ | مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَةٌ، وَلَا رَيْبُ |